Postlar filtri




بين سنة العراق المدللين وشيعة البلدان العربية البائسين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ علي المؤمن

لا أعتقد أن ثمة أقلية مذهبية قومية في العالم تحظى بكل هذا الدلال والتميز والاهتمام من قبل الأكثرية السكانية المذهبية وحكمها، كما يحظى به السنة العرب في العراق، وهو دليل على أن الشيعة ليسوا طائفيين، وأنهم رحماء بأبناء وطنهم، ولا يفرقون بين مواطن وآخر على أساس المذهب والدين والقومية، ولا يعرفون التعصب المحرّم، لأنهم ينتمون إلى مدرسة آل بيت النبوة.. مدرسة المحبة والتسامح والألفة والوحدة والتقارب والتعايش.

فبعد مشاركتها في حكم العراق بعد العام 2003، تبرعت الأحزاب الشيعية بالكثير جداً من استحقاقات الشيعة للسنة العرب، من أجل إرضائهم وكسبهم، وهو تبرع لم يكن مجدياً، إذ لا تزال نخبهم تصرخ بأن السنة العرب مهمشون وغير مشاركين بالقرار، رغم انهم بستحوذون على ثلث نسبة القرار ونسبة المناصب في الدولة، مقابل ثلث للأكراد وثلث للشيعة، لكنهم يطالبون بالمناصفة في القرار السياسي والتشريعي، رغم أن نسبة العرب السنة لا تتجاوز 16 بالمائة من نفوس العراق، ونسبة الكرد السنة لا تتجاوز 14بالمائة، مقابل 65 بالمائة هي نسبة الشيعة، ورغم أن أغلب النخب السنية المشاركة في الحكم لا تتفاعل مع العراق الجديد، وتطمح للعودة إلى العراق العنصري الطائفي في مرحلة ما قبل العام 2003، ورغم أن كثيراً منها حارب العراق الجديد بالسلاح وبالاستقواء بالمحيط الطائفي. فهل هناك دلال يفوق هذا الدلال؟

على العكس من الأنظمة السنية الطائفية التي تتشدد يوماً بعد آخر في قمع الشيعة المسالمين، وتهميشهم مذهبياً وإقصائهم من مناصب الدولة، برغم نسبهم السكانية العالية في بعض هذه البلدان. وكان آخرها حكم العصابات التكفيرية في سوريا، والذي لم يكتف بتحويل سوريا إلى دولة سنية مغلقة لا وجود فيها لأي حضور سياسي أو مذهبي للشيعة، بل قام بشن حرب شاملة ضدهم، برغم أن نسبة السنة العرب في سوريا لا تزيد عن 60 بالمائة من عدد سكان سوريا. وأن نسبة الشيعة والعلويين يزيد عن 20 بالمائة.

وهو الأمر نفسه في تركيا؛ فنسبة الشيعة والعلويين تتجاوز 35 بالمائة من سكان تركيا، لكنهم يعيشون أبشع حالات التهميش والاقصاء. كما هو الحال مع السعودية التي تزيد نسبة الشيعة فيها على 20 بالمائة من عدد السكان. أما شيعة البحرين؛ فهم يعيشون أم الكوارث، بالنظر لنسبتهم السكانية التي تقارب 70 بالمائة من عدد سكان البحرين، ونسبة حضورهم السياسي والمذهبي في مفاصل الدولة، والتي لا تزيد عن 10 بالمائة من حجم هذه المفاصل.

وبما أن الأشياء تعرف بأضدادها؛ فإن مقارنة بسيطة بين حظوة السنة الفريدة في العراق وبؤس الشيعة المتزايد في البحرين والسعودية وتركيا وباكستان وأفغانستان وسوريا وغيرها؛ ستوضح حجم المفارقة الأخلاقية والإنسانية، وتأثير الموروث العقدي المذهبي والتاريخي السياسي لكلا الفريقين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لمتابعة "كتابات علي المؤمن" الجديدة وارشيف مقالاته ومؤلفاته بنسخة (Pdf) على تلغرام: https://t.me/alialmomen64


كتابي الجديد ((المنظومة الطائفية)) سيصدر قريباً في بيروت عن دار روافد، في (520) صفحة. وهو رحلة تاريخية عقدية فكرية روائية سياسية، حول نشوء الانقسامات والايديولوجيات والفرق والمذاهب في الواقع الإسلامي، ومساراتها منذ ما قبل السقيفة وحتى الآن، والتركيز على العوامل الأساسية في هذا المجال، وخاصة الوضع في الحديث النبوي والإمامي، وتحريف التاريخ وتزييفه، والسياسة والسلطة والفتوحات والغزوات، والتفسيرات والاجتهادات غير الموضوعية، ودور غير المسلمين، من رواة ووضاع ومحتلين، تحول الايديولوجيات والمذاهب إلى طوائف مذهبية، ثم مجتمعات متدافعة ودول متحاربة، يكفر بعضها الآخر، وصولاً إلى واقع التعصب والتمييز والاحتراب الطائفي المعاصر.

وقد ارتأيت، بمناسبة شهر رمضان الخير، أن أستل من الكتاب بعض النوضوعات، وأنشرها على شكل مقالات ودراسات، في حساباتي في وسائل التواصل وبعض الصحف والمواقع، مساء كل يوم، ابتداء من السبت 29 / 2 / 2025.

علي المؤمن


الفرق بين النخب الشيعية والسنية في تقويم نظامي الأسد وصدام
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ علي المؤمن
عند المقارنة بين نظرة النخب الشيعية لنظام بشار الأسد البعثي في سوريا، ونظرة النخب السنية إلى نظام صدام البعثي في العراق؛ سنجد فرقاً جوهرياً؛ فالنخب الشيعية، بمن فيها السورية واللبنانية والإيرانية والعراقية، لم تقل يوماً ولن تقول بأن بشار الأسد كان بطلاً قومياً أو بطلاً شيعياً عظيماً، وأنه قائد الأُمة، وأنه قاهر السنة وناصر الشيعة، وأنه الحاكم العادل المؤمن، ولم يبكوا عليه حين سقط، ولن يعملوا له التماثيل، ولن يقيموا له مهرجانات التأبين في كل دولة ومدينة إذا مات أو أُعدم، ولن يعادوا كل سنّة الكرة الأرضية من أجله، وإنما يقوِّموه تقويماً موضوعياً، ويذكروا ما له وما عليه، وهو ما نقرأه ونسمعه.
وحتى حين كان الإسلاميون الشيعة العراقيون والبحرانيون والسعوديون لاجئون في سوريا؛ فإنهم كانوا في مجالسهم الخاصة ينتقدون أفكار البعث السوري وكثيراً من ممارسات النظام.
على العكس من النخب السنية، العلمانية والإسلامية، التي أوصلت صدام إلى رتبة الألوهية والعصمة والفرادة، وأطلقت عليه ألقاب القيادة والبطولة والشجاعة والنزاهة والاستقامة والعدالة والتقوى والنضال والجهاد والإيمان، ما لم يطلقه أحد على نبي وولي ومصلح؛ لمجرد أنه كان يضطهد الشيعة ويذبحهم، كما كانوا يطلقون على المعز بن باديس لقب (ناصر السنة وقاهر الشيعة)، لأنه ذبح ٨٠% من شيعة شمال أفريقيا أو أجبرهم على اعتناق التسنن.
والحال أن صدام حسين كان أكثر حكام التاريخ والجغرافيا إجراماً وطغياناً وفساداً وتجبراً، وإذا قارنّا حافظ الأسد وبشار الأسد به؛ فسنجدهما من (الملائكة) قياساً بصدام حسين، برغم كل الموبقات التي فعلاها.
وهذا الاختلاف الجوهري بين النخبتين في تقويم فكر الحاكم وسلوكه، يعبِّر عن الموروث العقدي والمذهبي والتاريخي لكل منهما؛ فوعي النخب السنية - عادة- في هذا المجال هو وعي طائفي، في حين تستند النخب الشيعية إلى معياري العقيدة والعدالة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لمتابعة "كتابات علي المؤمن" الجديدة وارشيف مقالاته ومؤلفاته بنسخة (Pdf) على تلغرام: https://t.me/alialmomen64


تصريحات قادة الأحزاب اللبنانية أمس واليوم أضحكتني؛
فبعد أن كان هؤلاء الخصوم يطلقون التصريحات النارية الشامتة ضد حز ب الله، ويتحدثون عن انهياره وموته، وعن تخطيطهم لمرحلة سياسية لبنانية بدون الحزب؛ فإنهم غيّروا أسلوب كلامهم وحركات أجسادهم تغييراً جذرياً مفاجئاً، بمجرد مشاهدتهم تشييع السيد نصر الله، وحجم المشاركة المليونية فيه، وقوة تنظيمه المذهلة، وخطاب الشيخ نعيم قاسم الحازم، ورسائل التنبيه التي كان الناس العاديون يوجهونها لخصوم الحزب والشيعة، وإظهار الدعم الشيعي الإيراني والعراقي الفاعل لشيعة لبنان خلال التشييع،
وأخذ هؤلاء الخصوم يتحدثون بهدوء وأدب عن ضرورة التعامل مع حز ب الله تعاملاً يتناسب مع حجمه، لأنه أمر واقع، وشريك أساس كما يقولون، ويمثل، هو وحركة أمل، الشيعة الذين هم المكون اللبناني الأكبر .
نعم؛ استعراض القوة أفضل رد على الخصم اللئيم.
نسخه منه إلى الأحزاب الشيعية العراقية.
علي المؤمن






ثم يبرز الفرق الجوهري عملياً مرة أخرى، بين المواقف العلوية الشامخة للمحور الشيعي المقاوم، والمواقف الخيانية الجبانة لمحور الأنظمة الطائفية العربية المرعوبة، حيال ابتزاز "ترامب" وتهديداته؛ فالمحور الشيعي ردّ كعادته، بكل هدوء وحزم وثقة عالية بالنفس: ((إذا هدّدونا سنهدِّدهم، وإذا نفّذوا تهديدهم سننفِّذ تهديدنا)).

في حين كانت ردود أفعال الأنظمة العربية الذليلة مثيرة للسخرية والقرف حيال تهديد "ترامب" بقطع المساعدات عن مصر والأردن، ومطالبة السعودية بتحويل مزيد من الأموال له، وفرض توطين الفلسطينيين في بلدان الأنظمة الثلاثة المذكورة؛ ما جعل هذه الأنظمة (فُرجة) أمام العالم، وهي تعبِّر عن هلعها وارتباكها الشديد وفقدانها لأبسط مؤشرات الكرامة والشرف واحترام الذات، رغم أن "ترامب" لم يضربها بصاروخ ولا حاصرها ولا أصدر قراراً ضدها ولا تآمر على استقرارها ولا منع عنها شيئاً، وإنما أدلى بتصريحاته وهو مسترخ؛ لكنها كانت كافية ليعبر من خلالها عن احتقاره لها، وقدرته على اللعب بأعصابها وجعلها تهلوس وتعيش حالة رعب وقلق دائمة.

وهنا يكمن الفرق - كما أشرنا - بين المنتصرين الأحرار الشرفاء الشامخين السائرين على درب علي بن أبي طالب.. إمام العدالة والكرامة والفروسية، وبين المنهزمين الخائبين الأذلاء العبيد للاستكبار.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لمتابعة "كتابات علي المؤمن" الجديدة وارشيف مقالاته ومؤلفاته بنسخة (Pdf) على تلغرام: https://t.me/alialmomen64


نعم؛ الشيعة فقدوا السيد نصر الله وخسروا سوريا..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
د. علي المؤمن

لا ننكر على المحور الطائفي- الصهيوني، حقه في أن يبتهج ويشمت بفقدان الشيعة بعض كبار قادتهم وأبطالهم في لبنان وفلسطين والعراق وإيران واليمن على يد الكيان الصهيوني، خلال العام الماضي (2024)؛ بسبب دفاعهم عن فلسطين وأهلها وقضيتها، وفي مقدمتهم السيد حسن نصر الله. ومن الطبيعي أن ينتشي أردوغان وبن سلمان ونتنياهو لأنهم ربحوا سوريا، وربحوا البؤرة التي سيتسللون منها إلى دول الأكثريات الشيعية، للتخريب فيها كعادتهم، وتحديداً لبنان والعراق.

ومن الطبيعي أيضاً أن يتوجّع الشيعي لفقده بعض رموزه، ويكرِّس جهده لملء الفراغات بقادة آخرين وجيل جديد، لتستمر جذوة الصعود والنهوض والعطاء بالتوقد، على كل المستويات. ومن حق الشيعي أن يستشعر الخطر، ويعيد حساباته، ويتأهب للإعداد للصهاينة وحلفائهم الطائفيين ما استطاع من قوة.

نعم؛ خسر الشيعة سوريا، كحلقة في الهلال الشيعي المقاوم، وقبلها بسنوات خسروا أفغانستان، لكنهم لم يخسروا سوريا لأن حكم بشار الأسد قد سقط، بل لأن البديل عنه طائفي تكفيري إرهابي تطبيعي، وها هو يحوّل سوريا إلى بؤرةٍ لفتنةٍ مزدوجة: طائفية تكفيرية إرهابية من جهة، وتطبيعية خيانية من جهة أخرى، بتخطيط ودعم سياسي ومالي ومذهبي مباشر من حكومات تركيا والسعودية وقطر وإسرائيل، وهذه الفتنة بكلا وجهيها، عابرةً للحدود وغير محصورةٍ بسوريا، وهنا تكمن المشكلة المركبة.

لقد فقد الشيعة قادة عظاماً، وخسروا الحلقة السورية، لكنهم لم يخسروا عقيدتهم وإيمانهم وشرفهم وكرامتهم وإنسانيتهم؛ بل راكموا أرباح هذه المناقب؛ لأنها راسخة متجذرة، موصولة برسول الله ووليه وآل بيته ((شيعتنا خلقوا من فاضل طينتنا))، في حين ظل الطائفيون المتهوِّدون يخسرونها بالجملة عند كل امتحان، غير مأسوف عليهم، منذ أن عميت أبصارهم واتّبعوا آل أمية وآل سعود وآل نتنياهو. وهذا ما يجعل (الأعلون) عنواناً للشيعة، وحسب الشيعة هذا التفاوت بينهم وبين خصومهم.

ولم ينتصر الشيعة في معركة العقيدة والكرامة والشرف وحسب، وإنما انتصروا في معركة العقول والقلوب؛ فقد أيقنت عشرات ملايين المسلمين في كل بقاع الأرض، أن مدرسة آل البيت هي مدرسة الفكر والعمل، والقول والفعل، والحق والحقيقة. وإذا كانت خطب ورسائل وتصريحات بعض هذه الملايين السنّية، قد ملأت وسائل الإعلام والتواصل وهي تصرح بأن الشيعة هم المدافعون الوحيدون عن الأمة، وهم قادتها وسادتها؛ فإن مخرجات هذه الرسائل ستتضح بالتدريج خلال السنوات القليلة القادمة، بصورة فتوحات إعجازية لم تحصل نتيجة نشاط تبليغي وتبشيري ودعوي إطلاقاً، وإنما لأن الشيعة خلال (15) شهراً ملتهباً؛ طبّقوا أمر إمامهم جعفر الصادق: ((كونوا دعاةً لنا بغير ألسنتكم))؛ فكانوا كما أراد، من خلال تضحياتهم الصامتة، وإيثارهم وجهدهم وجهادهم وبذلهم، وعطائهم العملي؛ ليقولوا للعالم أجمع: ((هذه هي مدرسة أهل البيت)).

ولم يكتف الشيعة بالدعوة لأهل البيت بأفعالهم بصمت، خلال محنة أهلهم السنة في فلسطين؛ وإنما أظهروا حرصاً بالغاً على التمسك بقولٍ آخر لإمامهم الصادق، وهو يوصيهم بإخوانهم السنة: ((صلّوا في مساجدهم، وعودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم، وإن استطعتم أن تكونوا الأئمة والمؤذنين فافعلوا؛ فإنكم إذا فعلتم ذلك قالوا: هؤلاء الجعفرية، رحم الله جعفراً، ما كان أحسن ما يؤدب أصحابه، وإذا تركتم ذلك قالوا: هؤلاء الجعفرية، فعل الله بجعفر، ما كان أسوء ما يؤدب أصحابه))؛ فطبّق الشيعة هذا الوصية بدمائهم وأموالهم وممتلكاتهم وبأغلى ما عندهم؛ حتى ضجّت ملايين أهل السنة وهي تقول: ((هؤلاء الجعفرية، رحم الله جعفراً، ما كان أحسن ما يؤدب أصحابه)).

وقد كان من الطبيعي أن يتبيّن المسلمون ذوو البصيرة والفطرة السليمة، الفرق الجوهري بين مدرسة آل البيت ومدرسة الأنظمة الطائفية الخائنة، المتحالفة مع الصهاينة والأمريكان ضد مستضعفي فلسطين ولبنان واليمن وإيران والعراق. أما الضالون؛ فعلى العكس؛ ظلوا على دين سلاطينهم، وتماهوا مع سلوك حلفائهم اليهود والصهاينة.. يطربون لسماع أخبار سقوط الشهداء وتفجير المساجد وتخريب البيوت وتشريد المستضعفين وجوعهم وعطشهم وخوفهم.

وإذا كان الشيعة قد فقدوا حلقةً جغرافيةً هنا وحلقةً هناك؛ فسيأخذون أضعافها لاحقاً، ليستحيل الهلال بدراً. وهذا تاريخ الـ (50) عاماً الأخيرة، إقرأوه لتعوا هذه الحقيقة بوضوح كامل.. أين كان الشيعة قبل العام 1979, وأين صاروا في العام 2025؛ فالتدافع سنّة إلهية لا تتبدل، ومآلاتها سنّة أيضاً.. هنا ربح وهناك خسارة. لكن العار الأبدي في الدنيا والآخرة، يتحمّله من يخسر شرفه وكرامته كل يوم، ويسلِّم أرضه وماله وعرضه للغرباء، ويعادي المسلمين المستضعفين ويتحالف مع الصهاينة.




خالص الامتنان للدكتور عبد الوهاب الراضي، رئيس اتحاد الناشرين العراقيين، على لطف التكريم، في إطار نشاطات معرض الكتاب الدولي في النجف الأشرف.


ولم يكن الدكتور علي المؤمن بمعزل عن تلك المواجهات، وهو العارف بخبايا تلك المعارك الفكرية، وهو ابن الفرات العربي الأصيل ونجفه الحضاري وتلميذ المحافل الحوزوية الإسلامية والأكاديمية الجامعية، واستطاع بحدّة ذكائه تجميع المتفرق وتفريق المتجمع في نقطة لم يلتفت لها من كتب حول الرجلين، ألا وهي البيئة الفكرية التي يستقيان منها، وكذلك التفرق بين مجتمعين لا يلتقيان في خصيصة واحدة، إلّا ما شذّ وندر، فضلاً عن بقية الخصائص.
فمثلاً؛ تناول الدكتور المؤمن بالنقد الموضوعي الدكتور علي الوردي في أغلب تشخيصاته للمجتمع العراقي وإسقاطاته التي يجانب معظمها الصواب حين يصوِّب سهام نقده للدين عبر بوابة المؤسسة الدينية، وكأنها تصفية حسابات أو ثارات، وهي السمة التي جمعت بينه وبين الدكتور علي شريعتي على ما أظن. وكم أعدتُ قراءة تلك الورقة البحثية للسيد المؤمن مرات ومرات، وخلصت بحسب نظري القاصر إلى أن الهدف منها هو إبراز ما للرجلين وما عليهما، وهي مهمة تستنزف طاقة كبيرة من جهد الباحث بالطبع من حيثيات كثيرة، من أكبرها: جرد أعمال الرجلين، أعني ما تركاه من حبر على ورق وتغلغل في العقول بعد ذلك، وقد جردها ودرسها بنظرة حيادية لا نظرة تحمل أحكاماً مسبقة، وهو ما نجده ماثل في منظومة فكر الدكتور المؤمن عموماً، والذي ينبغي أن يتحلى به كل باحث ناقد لا ناقم حاقد.
ولا أخال الدكتور المؤمن، بل أحاشيه، أن تكون منطلقاته منطلقات عداوة فكرية بحته، أو كما يقوم به بعض النقاد من معارضة من أجل المعارضة، بل هو إثراء للساحة الفكرية عن الجمود أو ما يخلص إليه الكبار من نتائج وكأنه وحي منزل أو سنة قطعية يحرم الخروج عليها؛ فما نقص من مادة البحث في بعض فصوله سهواً مني يمكنك إكماله، إما على نحو الاستدراك أو على نحو المطارحة؛ فقد أوافقك وتتخلخل قناعتي أو توافقني بحسب أصول البحث العلمي؛ فأستنير برأيك وأثني عليك إذا لم تخضع لانفعالاتك. ولذلك؛ وجدت الدكتور المؤمن يقبل ببعض أفكار الرجلين واستنتاجاتهما، ويرفض أخرى، وليخط لنفسه منهجاً ثالثاً متمايزاً في الرؤية الاستنهاضية والتوعوية الاجتماعية الشيعية، متميزاً.
أقولها وجازم بها لما لحظته في ثنايا مؤلفات السيد علي المؤمن وأوراقه البحثية، وقد تعمدت انتخاب ورقته البحثية هذه لسببين وجيهين وأوصي بالرجوع إليها، ألا وهما:
الأول: الموسوعية التي يتمتع بها الدكتور علي المؤمن، وهو ما لا يجحده إلّا مكابر، وأعني بها الموسوعية الفاحصة المدققة لا الالتقاطية السارقة؛ فكم هو فارق بين الاثنتين، وهو ما يعيه الدكتور المؤمن، لإنها أمانة العلم التي نذر نفسه من أجلها.
الثاني: القيمة العلمية التي تُظهر تضلع السيد المؤمن في فنون شتى، وما كانت تظهر بهذا الجمال لولا اقتحامه هذا الميدان أخص به، وهو ميدان البحوث المقارنة؛ فإنها من أصعب البحوث، وتحتاج إلى نفس طويل، وتجنب العجلة في إطلاق الأحكام؛ لأنها حينئذ والحال هذه سوف تكون مجافية للحقائق وتنتوشها عقول أولي الألباب، وتوصيف صاحبها بالسطحية وبالضحالة الفكرية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) المقال مستل من كتاب «علي المؤمن: قراءات في آثاره ومشروعه الفكري»، إعداد الباحثة والأكاديمية اللبنانية الدكتورة رفاه معين دياب، ومشاركة أكثر من (40) مفكراً وباحثاً.
(**) باحث وعالم دين بحراني، عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في البحرين


وبغض النظر عن مخالفة بعضهم لما حواه هذا السِفر القيم؛ نتيجة للتقاطع البنيوي، سواء في المنهجية أو النتائج؛ فهو محط نظر الباحثين في هذا الشأن؛ لدسامة تأصيله وإجاباته عن إثارات قديمة جديدة، وتقعيده لقواعد تحل كثيراً من المعضلات التي قد تعترض التطبيق والممارسة على أرض الواقع؛ إذ لابد من توافق بنسبة عالية بين النظرية والتطبيق لنجاح أي مشروع.
تفوّق المشروع الاستنهاضي للدكتور علي المؤمن:
بعد تعرّفي على المنظومة الفكرية للدكتور علي المؤمن، من خلال ما جاد به فكره المبدع، واقتناصي لكل جديده؛ صرت أعكف على قراءته قراءة تأملية، وأعقد مقارنات فكرية بينه وبين أقرانه والبارزين على الساحة الفكرية اليوم، وخاصة بين مشروعه الاستنهاضي للطائفة الشيعية على وجه الأرض عموماً، والعراق خصوصاً، والذي فاق نصف قرن قد أخذ منه كل مأخذ، وبين بعض المشاريع التفكيكية التي تفتقد إلى خارطة طريق، أعني بوصلةً تحقق تقدماً وامتيازاً يقارع الآخر، سواء كان خصماً إسلامياً أو ندّاً فكرياً علمانياً أو ليبرالياً.
وقد أوصلتني تلك المقارنة إلى حقيقة مفادها: تفوّق مشروع حضرة الأستاذ علي المؤمن على مشاريع نظرائه، بمن فيهم الشيعة؛ بل أن بعض هذه المشاريع كارثيٌّ، وسوف يُدخل الشيعة في نفق مظلم فيما لو نجح على المدى البعيد؛ لأنه انفتاحي لأبعد الحدود أو منفلت وذائب في الفكر الليبرالي، أو ما يُطلق عليه، تخفيفاً من الاستيحاش: (العلمانية المؤمنة).
ولا يخالجني الشك بأن الدكتور المؤمن يدّعي كمال مشروعه الاستنهاضي؛ بل أن وظيفة المفكر والباحث، وطبيعته، هو الاستدراك والحذف والإضافة، كلما اشتعل مصباح عقله أو لاح له أفق من حقيقة جديدة، مطارداً للكمال، وهو ما أخاله فيه حين تأليفه؛ كي يخرج بهذا الابتكار في زمن الغيبة الكبرى لصاحب الزمان (عليه السلام)، وهو الواعي بالتأكيد لما تحمله دفتي الكتاب من مواضيع سوف تفتح عليه النار، ولكنه، وبحسب منظومته الأخلاقية وهو المعهود منه، لم يخضع لانفعالاته، وهي التي تكبس على المرء في الغالب، مهما أوتي من أعصاب حديدية وتربية دينية في هكذا مواضيع، ويخرج عن اللياقة الأدبية مع المختلف الذي ربما استعمل العنف اللفظي، وأكمل مشواره التنظيري من دون حاجة للانجرار وراء التراشق وقص الجناح الذي يعتبر مقصلة المفكرين، وموتاً سريرياً للمشروع، حين موت صاحبه؛ جراء الإجهاز عليه من قبل الإقصائيين الذين يرقصون فرحاً لوقوع المفكر أو الباحث في فخ التسقيط من القواعد المؤتمرة بفعل الأمر من الأضداد.
ولسان حال الدكتور علي المؤمن، هو منطق القرآن الكريم: ((قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين)) في مسألة النزال الفكري، أي قارعني الحجة بالحجة، والدليل بالدليل، واختلف معي بأدب، ولا تصادرني؛ فالمعارك العلمية موطنها البحث العلمي الموضوعي الرصين، لا لغة محاكمة النوايا والاستقواء بالقطيع؛ فالمطارحات الفكرية موائدَ تُنثر على سفرتها الحقائق العلمية. والحقيقة ليست حكراً على أحد؛ بل هي بنت البحث. هكذا تعلمت.. أتوافق معك مرة وأتقاطع أخرى ولا ضير، أحترم رأيك وليس بالضرورة التسليم به، وفرقٌ كبيرٌ بين العاطفة والبحث عن الحقيقة. هكذا عرفتُ الدكتور علي المؤمن من قعر فكره، من خلال قراءات متأنية ومقارنة بخطوط نافذة في الساحة الفكرية اليوم، لها مريدوها ومروجوها.
ولعلي أُدرك عمق ما يصبو إليه في مشروعه الاستنهاضي، وخلاصته مسابقة الزمن في الجعل من شيعة العالم في مركزٍ متقدم، في زمنٍ تُقارع فيه الأمم صراعاً من أجل البقاء، مع ما يمتلكه الشيعة من مقومات النهوض ككيان واحد، مع تباعد جغرافيتهم واختلاف قومياتهم، وتذليل عقبات ذلك النهوض؛ بالرغم من تكالب الأمم عليهم، واستشرافه لمستقبلهم كقوة ضاربة في عصر الظهور المبارك. وما حملات التسقيط التي تناله، وتوصيفه بالطائفية؛ إلّا ضريبةً لذلك الفكر العتيد.
علي المؤمن بين علي شريعتي وعلي الوردي
لقد شدّني سحر بيان الدكتور علي المؤمن في عقده مقارنة بحثية حول شخصيتين ملأت عالم التشيع ضجيجاً ولما تزل، وكلاهما من مدرسة علم الاجتماع الوضعي، أحداهما: الدكتور علي شريعتي، وثانيتهما: الدكتور علي الوردي، وتأثيرهما في صنع جيل ثقافي متمرد. أقول: متمرد لما لهذه المفردة من دلالات يعلمها الغاطسون في قعر حقبة قلقة من الأحداث التي ألمّت بالمحيط العربي والإسلامي معا، وتداخل فيها الديني الكلاسيكي بالثقافي الحداثوي، وإن لم تكن هذه المفردة شائعة وقتذاك؛ بل تداخل الديني الصرف بالثوري التنظيري، وتخندق الأتباع والمريدون واصطفافاتهم ضد بعضهم البعض.


وعصره السياسي؛ هي المرحلة الأسوأ في تاريخ العراق الحديث؛ إذ حكم العراق بالحديد والنار، حزب البعث الإبليسي، وبداية تشكل الحركة الإسلامية السياسية المتمثلة بحزب الدعوة الإسلامية، وانخراطه في التنظيم؛ مما شكّل في حياته منحى الوقوف في وجه الظالم ونصرة المظلوم، في ظل نظام دكتاتوري عشائري أذاق العراق وأهله الويلات، وترك إرثاً إجرامياً يندى له جبين الإنسانية؛ مما أتاح للدكتور المؤمن أرخنةً مصداقيةً لتاريخ العراق السياسي المعاصر، ولمسيرة حزب الدعوة وفكره، وخاصة في كتابه «جدليات الدعوة»، وهو ينم عن خبرة في التحليل والتقويم ووفرة في المعلومة؛ لإنه من الرعيل الوسط. وتزداد أهمية هذا الكتاب؛ لأن الدكتور المؤمن كتبه بعد خروجه من الحزب، الأمر الذي أتاح له حرية طرح ما للحزب وما عليه.
ولا أرى هنا عيباً في مراجعة القناعات وتبدلها عند الباحث؛ فله حججه ومبرراته الموضوعية؛ فما كان بالأمس له ظروفه الموضوعية؛ يمكن أن يصبح اليوم لا حاجة في الاستمرار فيه؛ من أجل تقديم الأهم على المهم، والانتقال إلى موقع يخدم أفضل في الساحة، وهو ما أراه مناسباً من التماس العذر للدكتور المؤمن، وهو ما سوف يأتي.
وقد نجح السيد المؤمن في استثمار الهم السياسي العراقي في المهجر؛ ليخلق منه مناخاً للدراسة والبحث والعلم؛ ففي المهجر غربةٌ وكربة تتصارعُ مع الطموح، وأتصور بأنها كانت مصهر الدكتور المؤمن، وقد جعلت منه إنساناً حديدياً صعب المراس على الظروف القاهرة؛ بسبب فجائع البعث وإجرامه؛ فيمم شطره ناحية الدراسة الأكاديمية تلميذاً في جامعات إيران ولبنان وبريطانيا التي تزخر بخيرة المفكرين؛ فكان له حضوره المتميز الذي سوف يخط مساره الفكري المستقبلي في قابل حاضر العراق، بعد سقوط صنم بغداد عام ٢٠٠٣ م، في رفد الحركة الفكرية بمعالم مشروعه النهضوي داخل العراق، والاستنهاضي خارجه.
راقبته؛ فوجدته كالنحلة؛ لا يستكين من الحط على رحيق المعرفة من أجلك وأجلي؛ فقد همستُ لنفسي ذات مرة، حين ألاحق حالة منصته الإعلامية على الوميض الأخضر في الثلث الأخير من وقت السحَر: عجباً لهذا الرجل.. متى ينام!؟ أتراه الآن ممسكاً بين أنامله قلم التأصيل والتأسيس لبناء بقية طوابق مشروعه؟ أم هو قائم يصلي في محرابه من أجل حلِّ عويصةٍ استعصت عليه؛ فاستعان عليها بالصبر والصلاة؟
سفير الفكر الإمامي المستنير:
حين أريد الحديث عن المفكر الإسلامي الدكتور علي المؤمن في عيون قرّائه أو قارئيه؛ فأنا أُفضِّل مفردة قارئيه على قرائه؛ لأنّ الأولى تمثل القراءة الهواية، في حين أن الثانية تعني القراءة التخصصية العميقة. وهو ما بقيت أفعله عند التعليق والتداخل على بعض تجليات كتاباته أو أطروحاته، ولعلها تعليقات ومداخلات لا توفيه حقه في تعريف القارئ العربي المثقف بنتاجه الغزير ومديات وهج عقله الوافر.
الدكتور علي المؤمن عندي، هو سفير الفكر الإمامي المستنير، لا على التوصيف عند المتعلمنين العرب.. المبهورين بالبضاعة الأوروبية أو وكلائهم في عالمنا الإسلامي.. المتسيِّدين للمشهد السياسي والإعلامي الثقافي. هو سفيرٌ في زمنِ ندرة؛ فبأمثاله قلّما يجود الزمان، خاصة مع الواقع المزري الذي يضع العصا في العجلة، إما حسداً من داخل البيت الشيعي ممن لا يروق لهم علو كعبه، أو من طائفيين محليين وإقليميين موتورين يغيظهم تفوق الإسلام الحركي الشيعي الذي يمثله فكرياً. وها هنا تكمن غربة المفكر بالفعل.. غربة صامتة لا يكتوي بنارها إلّا هو، وصبرٌ مريرٌ على قطاف غرسه الفكري الذي يأمل أن يسهم في خدمة الإنسانية جمعاء فيما لو تم هضمه وتفعيل مخرجاته.
إن هموم الدكتور المؤمن وغربته، والتي أحسبها بعدد شعر رأسه، عن قرب ومعايشة هموم مشتركة ودقائق، لا يعلمها إلّا الصنو المماثل، وأتعاب وذكريات حلوة ومرة في الوطن، وفي المهجر، وتشابك خطوط الإسلام الحركي، وخفايا المعارضة وإخفاقاتها ونجاحاتها وانشطاراتها، ومحلّه من الإعراب في مجمل ما ذكرت. وفي خضم تعقيداتها كانت حقبة الصقل والنضج الفكري والتأصيل للمشروع الاستنهاضي الذي ينظِّر له الدكتور المؤمن. أقول: الصقل والنضج وذلك لما لهاتين المفردتين من تماه وامتزاج معنوي في تكوّن تضاريس المشروع؛ لإنه مخاض رحم المعاناة على مستوى المنظومة الفكرية للباحث، وكذلك بيئته الاجتماعية والسياسية، وهو ما تلخص بعضه في كتابه أو نظريته الموسومة بـ «الاجتماع الديني الشيعي: ثوابت التأسيس ومتغيرات الواقع»، وهو في ذات الوقت؛ يبين بجلاء اتكاءاته ومنطلقاته ومصادر فهمه وتوليفاته ومراميه وأهداف مشروعه، وهو بحق أول تصنيف في هذا الحقل، لم يسبقه سابق بحثي عربي، بحسب تتبعي القاصر.


علي المؤمن.. سفير الفكر الإمامي المستنير*
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
السيد جميل المصلي**
مدخل لتقديم رؤية معرفية عن الدكتور المؤمن:
هذه السطور؛ هي مدخل لتقديم رؤية معرفية عن المفكر الإسلامي الدكتور علي المؤمن، وبيان بعض ملامح شخصيته الفذة للملأ، لعلها تستهوي مغرر به؛ فيلحق بقافلة العقل المتزن والفكر العميق.
السيد الدكتور علي المؤمن مفكرٌ معاصرٌ مهمٌ يشار إليه بالبنان؛ فهو يتفرّد في التخصص في مجالات فكرية دقيقة، ما يجعله أحد أيقونات الفكر الإسلامي المعاصر، فضلاً عن كونه سليل المجد من شجرة السادة الغريفيين المباركة، وغصن من أغصان الدوحة العلوية الطاهرة. وأشعر ببالغ الفخر وأنا أتحدث عن محطات من مسيرة هذا الفارس، الذي لا يكل ولا يمل في سوح جهاد الكلمة والفكر المتزن، والحرص على بيان حقيقة التشيع من حاق تراثه الأصيل بسيف العصرنة، ومجالدة الخصم اللدود بجميع أطيافه، وفي ظل ماكنة دعاية التعتيم الإعلامي المضادة، الرامية إلى إخفاء نقاء مدرسة أهل البيت (عليهم السلام).
هذه الرؤية عن الدكتور المؤمن؛ مصدرها التوأمة الروحية والفكرية في الكثير من الهموم ذات الاهتمام المشترك، بالرغم من بُعد المسافات، ولكني أردد دائماً هذه المقطع الروائي عن سيدنا الإمام الصادق (عليه السلام)، وأحفظها عن ظهر قلب؛ حين تميل روحي للماثل من بني الإنسان، وليس أي إنسان، إنما لمن تجمعني به مشتركات، سقفها رفيع، وإن كنت أتقاطع معه في بعض المفاصل. هذه الرواية ((الأرواح جنود مجنّدة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف))، هي ملهمتي في التعرف على هذه الشخصية الفذة الفريدة، والاقتراب من وهج فكرها. وهكذا؛ وبعد اقترابي من الدكتور علي المؤمن، أكثر فأكثر، من خلال ما جاد به فكره المبدع، واقتناصي لكل جديده؛ صرت أعكف على قراءته قراءة تأملية؛ وكأنني أعز رفاقه، مذ كنّا نلعب بالكرة فترة الصبا في (عگد) من (عگود) محلة الحويش.
وازداد هيامي بفكر الدكتور علي المؤمن كلما قرأت له، وبنهم فوق حد التصور، ورغم كثرة ما طالعته من مؤلفات وكتابات الدكتور علي المؤمن وما كُتب عنه؛ لكنني لا أزال أشعر أنني غير محيط بعظمة هذا المفكر، الذي أفنى زهرة شبابه من أجل العراق وأهله وحركته الإسلامية وهويته الدينية، وكم ضخّ من دماء قلبه وخلايا دماغه أرقاماً لا يعلمها إلا الله (تعالى). وقد بدأت معرفتي به من خلال كتابه «سنوات الجمر»، الذي أرّخ لحقبة مظلمة حالكة السواد من تاريخ العراق السياسي في العهد الجمهوري، وصولاً إلى الاستبداد البعثي، الذي جثم على صدره سنواتٍ أحرُّ من الجمر، وحكته روح محنة منفى السيد المؤمن؛ فكانت برداً وسلاماً على أرواح عوائل قوافل الشهداء في بلاد المهجر.
دور البيئة والتنشأة في التكوين الفكري للدكتور علي المؤمن:
إذا أردنا دراسة فكر الدكتور المؤمن أو تقييم؛ فهي عملية ليست بالسهلة، ولابد من الحيادية في أمثال تلك الدراسات والتقييمات، والتجرد عن الصنمية في مربع الحب، والبعد عن الشخصنة في مربع العداوة، وإنما الرائد هو نشدان الحقيقة ومصداقية للتاريخ والإنصاف. وقبل ذلك نجيب على التساؤلات التالية حوله:
من هي الحاضنة العلمية للسيد المؤمن؟ فإن جينات الأم بالتأكيد تلحق الولد؛ إنها حاضرة النجف الأشرف.. مأوى العلم وقبلة الأساطين.
من هي بيئته الاجتماعية؟ هي البيئة النجفية.. بيئة العلم والأدب، والكل يعلم ما تضفيه البيئة على لوحة الإنسان من ألوان معالم تكوّن الشخصية في منظومتها الدينية والمجتمعية والسياسية بتلاوينها العربية العشائرية.
وما هو نسبه وانحداره؟ قرشيٌّ من السلالة النبوية المباركة، ومن أسرة علمية عريقة، وجده المرجع المقدس السيد حسين الغريفي (قدس سره)، الكربلائي مولداً، البحراني هجرةً، صاحب كتاب «الغنية» الفقهي الشهير؛ فلا غرو أن تنبسط جينات السيد المؤمن الوراثية من صلب طيب إلى رحمٍ طاهر؛ فيظهر ولداً متفرداً، يحمل من بعض تلك الشمائل.
وذكاؤه؛ يتصافق أغلب المراقبين والناقدين على حدة ذكائه، ونبوغه المبكر، وبزه الأقران منذ نعومة أظفاره إلى حين بلوغه مبلغ الرجال.






وقد سمح هذا التأصيل الشرعي المتفاعل مع الواقع، لجماعات التيار الثالث، ضمان وطنيتها وإسلاميتها في الوقت نفسه؛ إذ ظلت تضع عيناً على العقيدة والشريعة والعين الأخرى على إلزامات القانون الوضعي بكل تفاصيله، وقد نجحت في الوصول إلى أهداف المنظومتين الوطنية والعقدية معاً، كما هو الحال مع الجماعة الإسلامية في باكستان (المودودي) وحزب الرفاه في تركيا (أربكان) والجمهورية الإسلامية في إيران (الإمام الخميني).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لمتابعة "كتابات علي المؤمن" الجديدة وارشيف مقالاته ومؤلفاته بنسخة (Pdf) على تلغرام: https://t.me/alialmomen64


الوطن والدولة في آراء الإسلاميين المعاصرين
د. علي المؤمن
ينقسم الإسلاميون المعاصرون، بجماعاتهم ومفكريهم وفقهائهم، حيال مفهوم الوطن والدولة إلى ثلاثة تيارات:
1- رؤية الوطن من خلال العقيدة الإسلامية:
وهو تيار الإسلاميين التقليديين الذين ينظرون إلى الوطن والدولة من خلال الإسلام وأحكامه الشرعية حصراً، وهي النظرة الأصولية العقدية الموروثة؛ إذ يفصِّلون مفهوم الوطن ومفهوم الدولة على مقاس أحكام الشريعة الإسلامية، بنصوصها الأصلية، وهي التي تؤكد على أن الوطن هو وطن الإسلام والمسلمين، وهو الوطن الإسلامي، وكذلك الدولة الإسلامية، التي هي الدولة المتشكِّلة عقدياً، قبل ولادة القانون الدولي والقانون الدستوري الحديث والدولة الوطنية، وبالتالي؛ فإن تشكيل الوطن والدولة في إطار الشريعة الإسلامية يكون على أساس العقيدة حصراً، ولا يكون فيه للحدود الجغرافية أو القانون الدولي أو القانون الدستوري أي دخل.
والحقيقة؛ أن هذا التيار لا يمكن أن يجد له موطئ قدم على أرض الواقع الضاغط والمحسوم، على كل الصعد الجغرافية والقانونية والسياسية، وسيصطدم بأول تجربة حكم يخوضها، وسيضطر إلى تكييف فقهه وأوضاعه وفق متطلبات القانون الدولي والقانون الدستوري، وإلّا سيجد نفسه منفيّاً خارج الواقع. وهو ما حدث مع الجماعات الإسلامية العالمية التي نظّرت لقواعدها في الفقه السياسي الإسلامي على أساس العقيدة حصراً، ومآلات هذا التنظير الذي يؤسس لوطن ودولة عقديين عالميين لا حدود جغرافية لهما وتتسعان لكل المسلمين دون اشتراط الجنسية أو التابعية السياسية، كجماعة الإخوان المسلمين وحزب التحرير وحزب الدعوة الإسلامية، لكنها سرعان ما تراجعت تراجعاً واقعياً عندما عاشت تجربة الحكم في إطار الوطن الجغرافي السياسي والدولة الوطنية، واضطرت إلى الانخراط في صفوف التيار الثالث، كما سيأتي.
2- رؤية الإسلام من خلال الوطن:
وهو تيار الإسلاميين الليبراليين الذين ينظرون إلى الإسلام من خلال الوطن؛ فتكون نظرتهم قانونية سياسية وضعية وليست تأصيلية عقدية، وهي النظرة التي تفصِّل أحكام الشريعة الإسلامية والفقه السياسي الإسلامي على مقاس الوطن بحدوده الجغرافية وقانونه الدستوري وأحكام القانون الدولي، وبذلك تكون نظرتهم متطابقة مع النظرة الوضعية للوطن والدولة.
وقد انجرف هذا التيار تدريجياً في موجات الشعارات القومية والوطنية الوضعية، المتعارضة مع مبادئ الشريعة الإسلامية، وكان انجرافاً عاطفياً وانفعالياً ابتداءً، لكنه تحوّل إلى موقف فكري سياسي، ثم استحال تياراً وطنياً كأي تيار وطني غير إسلامي علماني، وأدار ظهره لكل القواعد العقدية والشرعية في موضوع الوطن والدولة وفي موضوع السياسة الخارجية، وصار يتخبّط بين انتماءاته الإسلامية التاريخية وبين عدم قدرته على تكييف هذا الانتماء لحل إشكاليات القانون الدولي والقانون الدستوري، وبذلك؛ فشل في ضمان إسلاميته ووطنيته معاً، أي أنه أضاع المنهجين. ومثال ذلك بعض الجماعات الإسلامية العراقية والإيرانية والمصرية والمغاربية والتركية، أو الخارجين على نظرية جماعات التيارين الأول والثالث.
3- الرؤية التأصيلية الواقعية الجامعة:
وهي رؤية تيار الإسلاميين الذين يجمعون بين النظرة إلى الوطن من خلال الشريعة الإسلامية وأحكامها الثابتة، والنظرة إلى الشريعة الإسلامية من خلال الوطن بحدوده الجغرافية وخصوصياته القانونية والسياسية، وهم الإسلاميون التأصيليون الواقعيون، أي الذين يستندون إلى مبدأ التحول في أحكام الشريعة عند تغير موضوعات الأحكام، ويقومون بعملية تأصيل وتجديد متداخلة ومترابطة؛ ليكون الناتج وطناً إسلامياً ودولة إسلامية عقدية ملتزمة بثوابت القانون الدولي والقانون الدستوري، وتناور في مساحات المتغيرات، وخاصة على مستوى السياسة الخارجية، في إطار عملية تكييف فقهي وقانوني دقيق.


كلمتي في الأسبوع الماضي حول ((عالمية الشيخ محمد مهدي الآصفي والجيل النجفي الذهبي العالمي في الستينات))، ضمن فعاليات معرض النجف الدولي للكتاب.

20 ta oxirgi post ko‘rsatilgan.