من هنا يبدو أنّ التركيز على مفهوم الاستقلال قد شابَهُ شيءٌ التوصيف المضاف في فترة ما بعد الاستقلال، حيث كانت السلطة الحاكمة (التنظيم السياسي- الجبهة القومية) تؤكّد وتركّز في خطابها السياسي والإعلامي على مفهوم "الاستقلال الوطني الناجز".
ثوّار الأمس وحكّام اليوم لم يكونوا حريصين على صبغة يوم 30 نوفمبر بيوم الاستقلال فقط، بل اعتبروه يومًا للاستقلال الوطني الناجز الذي وحّد أكثر من 22 سلطنة ومشيخة في وحدة سياسية وجغرافية واحدة.
ويبدو أنّ دافعَ هذا التركيز على كلمة "الوطني الناجز" إنّما هو بقدر ما كان صحيحًا، إلّا أنّ دوافعه أيضًا كانت دوافع سياسية، عبّر عن حالة دفاع تبنّته سلطة الاستقلال عن هذا المنجز الوطني أمام ما برز من حملات مضادّة كانت تنتقص من قيمة ومخرجات اتفاقية الاستقلال، بل وفي التشكيك في مخرجاتها، وفي كفاءة الوفد المفاوض، بحُجّة وزعم البعض بتفريط الوفد المفاوض في بعض الالتزامات التي كانت تطرحها بريطانيا، مقابل بحثهم عن السلطة - حسب زعم المعارضة السياسية والعسكرية المناوئة للجبهة القومية آنذاك.
ويمكن تلخيص تلك الادعاءات، على النحو التالي:
-الزعم بتنازل وفد الجبهة القومية عن التعويض المالي الذي يفترض أن تقدّمه بريطانيا للدولة الوليدة تعويضًا لفترة استعمارها للبلاد.
-الزعم بوجود بنود سرية في وثيقة الاستقلال لم يعلن عنها حسب التسريبات المشوشة وغير المؤكّدة عمليًّا، ومنها التزام الجبهة القومية بعدم السماح للزعيم جمال عبدالناصر ومصر العروبة وأفكار التحرر الوطني من الاستعمار، للنشاط والتغلُّل داخل الدولة الناشئة بعد الاستقلال.
وعدد آخر من المزاعم التي كانت تدور في أروقة المعارضة العسكرية والسياسية في الخارج يومها والتي كانت تُشكِّك بقدرة وفد الجبهة القومية المفاوض وقيمة النتائج السياسية والقانونية والمكاسب الجغرافية التي تحقّقت للوفد المفاوض لتسلّم زمام دولة الجنوب من أقصى المهرة إلى باب المندب وتوحيد أكثر من (22) سلطنة ومشيخة وحِمية في دولة واحدة.
ويمكن إضافة التأكيد على إصرار السلطة السياسية الحاكمة بعد الاستقلال بتوصيف يوم 30 نوفمبر بـ"الاستقلال الوطني الناجز"، أنّه جاء على خلاف رغبة بريطانيا بالرحيل عن الجنوب وجلاء قوّاتها سلميًّا وتحديد موعد الجلاء في 8 فبراير 1968، وذلك بسبب الواقع على الأرض واشتداد حدّة العمليات الفدائية في عدن وغيرها، وتوابع الهزيمة العسكرية والسياسية التي تلقّاها الاستعمار البريطاني بتحرير مدينة كريتر في قلب عدن في 20 يونيو 1967 من سلطة الاحتلال لأكثر من عشرين يومًا، واعتبر هذا الحدث ردًّا قوميًّا لنكسة العرب في 6 يونيو 1967، وارتداداتها السياسية المحبطة في لندن، ما جعلت بريطانيا تعجّل بالرحيل تحت ضربات ولعلعة السلاح في ظهيرة يوم 29 نوفمبر، ووصول وفد الجبهة القومية مُعلِنًا الاستقلال وقيام الدولة الوليدة.
كلُّ هذا هو ما منح الجبهة القومية، وللشعب عمومًا، ويحقّ لها ذلك، أن ترى أنّ الاستقلال لم يأتِ كرغبة في الجلاء، وإنّما تحت واقع كفاح مُسلّح وشعبيّ مرير عُمّد بالدماء، ولذلك كان التعبير السائد يومها "الاستقلال الوطني الناجز" الذي لم يفرط بذرة رمل واحدة، ردًّا على كلّ الإشاعات والتسريبات التي كانت تُشكّك بقدرة السلطة الوطنية الجديدة على تحقيق منجز الاستقلال وبمضمون ونتائج "الاستقلال الوطني الناجز" عن بريطانيا العظمى التي لا تغيب عنها الشمس.
وهذه واحدة من "الاصطراعات" التي جرت قبل أكثر من 55 عامًا على تحديد التوصيف السياسي ليوم 30 نوفمبر 1967 "الاستقلال"، مضافًا إليه وصف "الوطني الناجز".
وربما تعكس حادثة إجلاء بعض القوات الجوية البريطانية المحدودة التي اتُّفق على بقائها في عدن لتدريب القوات في جيش دولة الاستقلال، والحماسة التي أبداها وزير الدفاع يومها (علي سالم البيض) وخطابه المشهور بضرورة جلائها دون قيد أو شرط باعتبار وجود قوات استعمارية، يعطي انطباعًا بعدم اكتمال "الاستقلال الوطني الناجز".
وهي من حماسات القيادة السياسية الشابة والمندفعة وردود الافعال الثورية ردًّا على ما كان يروَّج عن عدم اكتمال عقد الاستقلال.
إذن، ثوّار الأمس وحكّام اليوم لم يكونوا حريصين على صبغة يوم 30 نوفمبر بيوم الاستقلال فقط، بل اعتبروه يومًا للاستقلال الوطني الناجز الذي وحّد أكثر من 22 سلطنة ومشيخة في وحدة سياسية وجغرافية واحدة هي "جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية"، وفي محافظات ست.
وكان هذا الإنجاز التوحيدي لأرض الجنوب تاريخيًّا لوطن كان محتلًّا ومشتّتًا في ولايات ومشيخات وسلطنات وصار دولة ذات سيادة وحدود جغرافية معترف بها إقليميًّا ودوليًّا ولها مقعد في الأمم المتحدة والجامعة العربية وفي سائر المنظمات والهيئات العربية والإقليمية والإسلامية والدولية.