ثورة الخامس والعشرين من يناير لم تكن مجرد حدث عابر في تاريخنا، بل كانت لحظة فارقة نقشت تفاصيلها في الذاكرة، رغم صغر سني آنذاك. ما زلت أذكر كل شيء بوضوح، كأن الأيام لم تمضِ، وكأن المشاهد لم تبهت ألوانها في مخيلتي.
أذكر صوت الهتافات التي علت في الشوارع، أذكر الوجوه التي ملأتها الحماسة والأمل، أذكر كيف كانت مصر كلها تنبض بروح واحدة، كيف اجتمع الناس على اختلافهم في الميادين، كيف شعرنا – ولو للحظة – أن المستقبل ملك أيدينا. لكنني أيضًا أذكر الخوف الذي كان يتسلل إلينا كلما زادت التوترات، أذكر لحظات الانكسار، أذكر الأخبار التي هزّت قلوبنا، والأيام التي تساقطت فيها الأحلام كما تتساقط أوراق الشجر في خريف قاسٍ.
الحزن لا يأتي فقط من الذكريات المؤلمة، بل من الشعور بأن شيئًا ما قد ضاع، أن تلك الأحلام التي رسمناها في الميادين لم تكتمل، وأن الطريق الذي بدأناه لم يصل إلى النهاية التي تمنيناها. ومع ذلك، تبقى تلك الثورة شاهدًا على أننا في يوم ما امتلكنا الشجاعة لنحلم، ولنهتف، ولنعبر عن صوت لم يكن يُسمع من قبل.
وأتذكر أول مرة زرت فيها الميدان بعد الثورة… كان المكان كما هو، لكنه لم يكن نفسه. كل زاوية فيه تحكي قصة، كل جدار يحمل أثرًا لمن مرّوا من هنا، لمن صرخوا، لمن ضحكوا، لمن بكوا، ولمن لم يعودوا أبدًا. كنت أسير بين الطرقات التي كنت أراها على شاشات التلفاز، وأشعر وكأن الأرض تحت قدمي تحمل ثقل الذكريات، وكأن الهواء لا يزال مشبعًا بأصداء الهتافات. شعرت بالفخر، بالحزن، بالدهشة، وكأنني أقف في قلب التاريخ نفسه. لم يكن مجرد ميدان، كان شاهدًا على كل ما عشناه، على كل ما فقدناه، وعلى كل ما لا يزال حيًا فينا.
لكن أكثر ما يؤلم هو ذكرى الشهداء… أولئك الذين رحلوا ليحيا الوطن، الذين واجهوا الموت بأعين مليئة بالإصرار، وبقلوب لم تعرف الخوف. كانوا بيننا، يشاركونا نفس الحلم، يرفعون نفس الشعارات، يمشون على نفس الطرقات، لكنهم لم يعودوا مثلنا… لقد صاروا رمزًا خالدًا، صاروا ذاكرة لا تمحى، صاروا أرواحًا تحلق فوقنا، تراقب إن كنا لا نزال على العهد.
كم هو مؤلم أن يختفي وجه اعتدت رؤيته، أن يُصبح صوتٌ مألوف مجرد ذكرى، أن يمتلئ الميدان بأسماء كُتبت على الجدران بدلًا من أن ترددها الحناجر. لكن رغم الحزن، نشعر بالفخر، نشعر أنهم لم يغادروا حقًا، بل أصبحوا جزءًا من تراب هذا الوطن، من كل زاوية في الشوارع التي ضحوا من أجلها، من كل قلب لا يزال يؤمن أن دماءهم لن تذهب سُدى.
لقد علمونا أن الحرية ليست مجرد كلمة، وأن حب الوطن ليس شعارًا نردده، بل ثمن يُدفع، وأمل يُزرع، وقصة تُكتب بدماء الأبطال. وحين نتذكرهم، لا نملك إلا أن نقف إجلالًا، أن ننحني احترامًا، أن نعدهم – ولو بصمت – أننا لن ننساهم، وأن أحلامهم ستظل في أعيننا نورًا يرشدنا كلما ضللنا الطريق.
-تُقى جبر
أذكر صوت الهتافات التي علت في الشوارع، أذكر الوجوه التي ملأتها الحماسة والأمل، أذكر كيف كانت مصر كلها تنبض بروح واحدة، كيف اجتمع الناس على اختلافهم في الميادين، كيف شعرنا – ولو للحظة – أن المستقبل ملك أيدينا. لكنني أيضًا أذكر الخوف الذي كان يتسلل إلينا كلما زادت التوترات، أذكر لحظات الانكسار، أذكر الأخبار التي هزّت قلوبنا، والأيام التي تساقطت فيها الأحلام كما تتساقط أوراق الشجر في خريف قاسٍ.
الحزن لا يأتي فقط من الذكريات المؤلمة، بل من الشعور بأن شيئًا ما قد ضاع، أن تلك الأحلام التي رسمناها في الميادين لم تكتمل، وأن الطريق الذي بدأناه لم يصل إلى النهاية التي تمنيناها. ومع ذلك، تبقى تلك الثورة شاهدًا على أننا في يوم ما امتلكنا الشجاعة لنحلم، ولنهتف، ولنعبر عن صوت لم يكن يُسمع من قبل.
وأتذكر أول مرة زرت فيها الميدان بعد الثورة… كان المكان كما هو، لكنه لم يكن نفسه. كل زاوية فيه تحكي قصة، كل جدار يحمل أثرًا لمن مرّوا من هنا، لمن صرخوا، لمن ضحكوا، لمن بكوا، ولمن لم يعودوا أبدًا. كنت أسير بين الطرقات التي كنت أراها على شاشات التلفاز، وأشعر وكأن الأرض تحت قدمي تحمل ثقل الذكريات، وكأن الهواء لا يزال مشبعًا بأصداء الهتافات. شعرت بالفخر، بالحزن، بالدهشة، وكأنني أقف في قلب التاريخ نفسه. لم يكن مجرد ميدان، كان شاهدًا على كل ما عشناه، على كل ما فقدناه، وعلى كل ما لا يزال حيًا فينا.
لكن أكثر ما يؤلم هو ذكرى الشهداء… أولئك الذين رحلوا ليحيا الوطن، الذين واجهوا الموت بأعين مليئة بالإصرار، وبقلوب لم تعرف الخوف. كانوا بيننا، يشاركونا نفس الحلم، يرفعون نفس الشعارات، يمشون على نفس الطرقات، لكنهم لم يعودوا مثلنا… لقد صاروا رمزًا خالدًا، صاروا ذاكرة لا تمحى، صاروا أرواحًا تحلق فوقنا، تراقب إن كنا لا نزال على العهد.
كم هو مؤلم أن يختفي وجه اعتدت رؤيته، أن يُصبح صوتٌ مألوف مجرد ذكرى، أن يمتلئ الميدان بأسماء كُتبت على الجدران بدلًا من أن ترددها الحناجر. لكن رغم الحزن، نشعر بالفخر، نشعر أنهم لم يغادروا حقًا، بل أصبحوا جزءًا من تراب هذا الوطن، من كل زاوية في الشوارع التي ضحوا من أجلها، من كل قلب لا يزال يؤمن أن دماءهم لن تذهب سُدى.
لقد علمونا أن الحرية ليست مجرد كلمة، وأن حب الوطن ليس شعارًا نردده، بل ثمن يُدفع، وأمل يُزرع، وقصة تُكتب بدماء الأبطال. وحين نتذكرهم، لا نملك إلا أن نقف إجلالًا، أن ننحني احترامًا، أن نعدهم – ولو بصمت – أننا لن ننساهم، وأن أحلامهم ستظل في أعيننا نورًا يرشدنا كلما ضللنا الطريق.
-تُقى جبر