تحذِيرُ السَّلَفِ الكرَام من عِلمِ الكَـلَامِ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبيه الأمين المبعوث رحمة للثقلين وعلى آله وصحبه ومن اهدى بهديه واقتفى أثره إلى يوم الدين أما بعد:
فإن أهل السّنة في كل وقت وحين كانت عقائدهم و سننهم مستمدة من الوحيين كتاب الله وسنّة نبيه الأمين وفق فهم الصحابة الصّالحين والعلماء الربانيين وأعملوا فيها قواعد الاستدلال المرضيّة على الطريقة السّوية النّبويّة ولم يبدّلوا تبديلا، فهم يدركون أنّ الكتاب الله أقوم قيلا وسنّة نبينا أهدى سبيلا في كل مصر وعصر.
ولم ينحازوا في الإثبات لتلك العقائد بمحض العقل بل استدلالهم كان وفق ما جاء به النّقل، فلمّا كان الحال هكذا لم تضطرب فهوم الناس ولم يلحقها الضرر والباس، حتى نشأت نابتة قعّدوا التأصيلات العقلانيّة في الاستدلال على العقائد وإثباتها، فحدثت الفوضى الفكريّة وانشقت الأمة الاسلاميّة، ثم انبرى لهذه الطرق الدّخيلة علماء السّنة الأصيلة وأصحاب الفهم السليم والفضيلة، فنقضوها شبهة شبهة بعزم وجهد، وأبعدوها كلّ البعد، حتى لا تعبر شبهات المعرضين المبطلين ولا نحَلُ المخالفين، والحمد لله ربّ العالمين.
هذا ولما قرّر السّلف قواعد الاستدلال على العقائد وإثبات أصول الدين بالطريقة السّليمة كان لزاما دفعُ الطرائق البدعيّة وما أنشأه ممن حاد عن أصول السّلف السّوية في هذا الباب كعلم الكلام في إثباتهم العقائد وخاصّة مباحث الأسماء والصّفات، التي ضلّ فيها أضرابٌ كثرٌ من الأقوام بسبب إدراجهم المنطق وعلم الكلام، ولهذا جاءت شهاب العلماء بعلم محقَقٍ حارقٍ لهذه الأفكار الدّخيلة لأهل المنطق.
فعلم الكلام كما بيّنه الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في "فتح ربّ البرية في تلخيص الحموية" قال: ˒˒عِلْمُ الكَلَامِ هُوَ : مَا أَحْدَثَهُ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي أُصُولِ الدِّينِ مِنْ إِثْبَاتِ العَقَائِد بالطُّرُقِ الَّتِي ابْتَكَرُوها وأَعْرَضُوا بِهَا عَمَّا جَاءَ الكِتَابُ والسُّنَّةُ بِه˓˓ ثم قال مُبيّنا في "شرح فتح رب البرية "
هَذَا تَعْرِيفُ عِلْمِ الكَلَامِ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ إِثْبَاتِ العَقَائِدِ بِالطُّرُقِ الكَلَامِيَّةِ المبنيَّةِ عَلَى الجَدَلِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ عَقْلًا؛ وَلِذَلِكَ سَمَّيْنَاهُ عِلْمَ الكَلَام؛ لكَثْرَةِ كَلَامِهِمْ، فَتَجِدُ الوَاحِدَ مِنْ عُلَمَائِهِمْ يَكتُبُ لَهُ الصَّفحتينِ أَوِ الثَّلَاثَ صَفحَاتٍ عَلَى مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكُلُّه هَذَيَان.
ولَمْ يَحْدُثْ عِلْمُ الكَلَام إِلَّا بَعْدَ انْقِرَاضِ الصَّحَابَةِ، وَذَلِكَ لَّمَا دَخَلَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أُرْغِمَ بَعْضُهم عَلَى الدُّخُولِ فِي الإِسْلَامِ فَحَاوَلُوا أَن يُفْسِدُوا العَقَائِدَ، وَأَتَوْا بهَذِهِ الطُّرُقِ المبنيَّةِ عَلَى الجَدَلِ والخُصومَةِ والنزاع والتشويشِ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُم يَقُولُ: لَا تَصِحٌ عَقِيدَةُ الإِنْسَانِ حَتَّى يَتَقَدَّمَها شَكٍّ، فَيَشُكُ أَوَّلًا، ثُمَّ يُحَاوِلُ أَنْ يُزِيلَ ذَلِكَ الشَّكَ، ولكِنْ يُقَالُ : مَنْ يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ إِذَا شَكٍّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى اليَقِينِ، فيُخشَى أَنَّهُ إِذَا شَكٍّ رَجَعَ إِلَى الكُفْرِ ، فَعَلَى كُلِّ حَالٍ كَلَامُهُمْ بَاطِل مِنْ أَصْلِهِ" (1) انتهى.
فالعلماء الذين ساروا على النّهج الصّحيح قد ذمّـوا علم الكلام لما رأوا فيه الأثر القبيح وما ينجرّ عنه من الاسقام والأمور العظام الجسام، وقد أثرى القرطبي -رحمه الله- ردّا مسدّدا في كتابه «المفهم» في شرح حديث: «أبغض الرّجال إلى الله الألد الخصم»، وهو في أوائل «كتاب العلم» من «صحيح مسلم»، قال -رحمه الله-: وهذا المبغوض عند الله تعالى هو الذي يُقصد بخصومته: مدافعة الحق، ورده بالأوجه الفاسدة، والشبه الموهمة، وأشد ذلك الخصومة في أصول الدين، كخصومة أكثر المتكلمين المعرضين عن الطرق التي أرشد إليها كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وسلف أمته، إلى طرق مبتدعة، واصطلاحات مخترعة، وقوانين جدلية، وأمور صناعية، مدار أكثرها على مباحث سوفسطائية، أو مناقشات لفظية ترد بشبهها على الآخذ فيها شبه ربما يعجز عنها، وشكوك يذهب الإيمان معها، وأحسنهم انفصالا عنها أجدلهم لا أعلمهم، فكم من عالم بفساد الشبهة لا يقوى على حلها! وكم من منفصل عنها لا يدرك حقيقة علمها! ثم إن هؤلاء المتكلمين قد ارتكبوا أنواعا من المحال لا يرتضيها البُله، ولا الأطفال، لما بحثوا عن تحيز الجواهر، والأكوان والأحوال، ثم إنهم أخذوا يبحثون فيما أمسك عن البحث فيه السلف الصالح، ولم يوجد عنهم فيه بحث واضح، وهو كيفية تعلقات صفات الله تعالى، وتقديرها، واتخاذها في أنفسها، وأنها هي الذات، أو غيرها، وأن الكلام، هل هو متحد، أو منقسم؛ وإذا كان منقسما فهل ينقسم بالأنواع أو بالأوصاف؛ وكيف تعلق في الأزل بالمأمور؛ ثم إذا انعدم المأمور فهل يبقى ذلك التعلق؛ وهل الأمر لزيد بالصلاة مثلا هو
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبيه الأمين المبعوث رحمة للثقلين وعلى آله وصحبه ومن اهدى بهديه واقتفى أثره إلى يوم الدين أما بعد:
فإن أهل السّنة في كل وقت وحين كانت عقائدهم و سننهم مستمدة من الوحيين كتاب الله وسنّة نبيه الأمين وفق فهم الصحابة الصّالحين والعلماء الربانيين وأعملوا فيها قواعد الاستدلال المرضيّة على الطريقة السّوية النّبويّة ولم يبدّلوا تبديلا، فهم يدركون أنّ الكتاب الله أقوم قيلا وسنّة نبينا أهدى سبيلا في كل مصر وعصر.
ولم ينحازوا في الإثبات لتلك العقائد بمحض العقل بل استدلالهم كان وفق ما جاء به النّقل، فلمّا كان الحال هكذا لم تضطرب فهوم الناس ولم يلحقها الضرر والباس، حتى نشأت نابتة قعّدوا التأصيلات العقلانيّة في الاستدلال على العقائد وإثباتها، فحدثت الفوضى الفكريّة وانشقت الأمة الاسلاميّة، ثم انبرى لهذه الطرق الدّخيلة علماء السّنة الأصيلة وأصحاب الفهم السليم والفضيلة، فنقضوها شبهة شبهة بعزم وجهد، وأبعدوها كلّ البعد، حتى لا تعبر شبهات المعرضين المبطلين ولا نحَلُ المخالفين، والحمد لله ربّ العالمين.
هذا ولما قرّر السّلف قواعد الاستدلال على العقائد وإثبات أصول الدين بالطريقة السّليمة كان لزاما دفعُ الطرائق البدعيّة وما أنشأه ممن حاد عن أصول السّلف السّوية في هذا الباب كعلم الكلام في إثباتهم العقائد وخاصّة مباحث الأسماء والصّفات، التي ضلّ فيها أضرابٌ كثرٌ من الأقوام بسبب إدراجهم المنطق وعلم الكلام، ولهذا جاءت شهاب العلماء بعلم محقَقٍ حارقٍ لهذه الأفكار الدّخيلة لأهل المنطق.
فعلم الكلام كما بيّنه الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في "فتح ربّ البرية في تلخيص الحموية" قال: ˒˒عِلْمُ الكَلَامِ هُوَ : مَا أَحْدَثَهُ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي أُصُولِ الدِّينِ مِنْ إِثْبَاتِ العَقَائِد بالطُّرُقِ الَّتِي ابْتَكَرُوها وأَعْرَضُوا بِهَا عَمَّا جَاءَ الكِتَابُ والسُّنَّةُ بِه˓˓ ثم قال مُبيّنا في "شرح فتح رب البرية "
هَذَا تَعْرِيفُ عِلْمِ الكَلَامِ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ إِثْبَاتِ العَقَائِدِ بِالطُّرُقِ الكَلَامِيَّةِ المبنيَّةِ عَلَى الجَدَلِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ عَقْلًا؛ وَلِذَلِكَ سَمَّيْنَاهُ عِلْمَ الكَلَام؛ لكَثْرَةِ كَلَامِهِمْ، فَتَجِدُ الوَاحِدَ مِنْ عُلَمَائِهِمْ يَكتُبُ لَهُ الصَّفحتينِ أَوِ الثَّلَاثَ صَفحَاتٍ عَلَى مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكُلُّه هَذَيَان.
ولَمْ يَحْدُثْ عِلْمُ الكَلَام إِلَّا بَعْدَ انْقِرَاضِ الصَّحَابَةِ، وَذَلِكَ لَّمَا دَخَلَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أُرْغِمَ بَعْضُهم عَلَى الدُّخُولِ فِي الإِسْلَامِ فَحَاوَلُوا أَن يُفْسِدُوا العَقَائِدَ، وَأَتَوْا بهَذِهِ الطُّرُقِ المبنيَّةِ عَلَى الجَدَلِ والخُصومَةِ والنزاع والتشويشِ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُم يَقُولُ: لَا تَصِحٌ عَقِيدَةُ الإِنْسَانِ حَتَّى يَتَقَدَّمَها شَكٍّ، فَيَشُكُ أَوَّلًا، ثُمَّ يُحَاوِلُ أَنْ يُزِيلَ ذَلِكَ الشَّكَ، ولكِنْ يُقَالُ : مَنْ يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ إِذَا شَكٍّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى اليَقِينِ، فيُخشَى أَنَّهُ إِذَا شَكٍّ رَجَعَ إِلَى الكُفْرِ ، فَعَلَى كُلِّ حَالٍ كَلَامُهُمْ بَاطِل مِنْ أَصْلِهِ" (1) انتهى.
فالعلماء الذين ساروا على النّهج الصّحيح قد ذمّـوا علم الكلام لما رأوا فيه الأثر القبيح وما ينجرّ عنه من الاسقام والأمور العظام الجسام، وقد أثرى القرطبي -رحمه الله- ردّا مسدّدا في كتابه «المفهم» في شرح حديث: «أبغض الرّجال إلى الله الألد الخصم»، وهو في أوائل «كتاب العلم» من «صحيح مسلم»، قال -رحمه الله-: وهذا المبغوض عند الله تعالى هو الذي يُقصد بخصومته: مدافعة الحق، ورده بالأوجه الفاسدة، والشبه الموهمة، وأشد ذلك الخصومة في أصول الدين، كخصومة أكثر المتكلمين المعرضين عن الطرق التي أرشد إليها كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وسلف أمته، إلى طرق مبتدعة، واصطلاحات مخترعة، وقوانين جدلية، وأمور صناعية، مدار أكثرها على مباحث سوفسطائية، أو مناقشات لفظية ترد بشبهها على الآخذ فيها شبه ربما يعجز عنها، وشكوك يذهب الإيمان معها، وأحسنهم انفصالا عنها أجدلهم لا أعلمهم، فكم من عالم بفساد الشبهة لا يقوى على حلها! وكم من منفصل عنها لا يدرك حقيقة علمها! ثم إن هؤلاء المتكلمين قد ارتكبوا أنواعا من المحال لا يرتضيها البُله، ولا الأطفال، لما بحثوا عن تحيز الجواهر، والأكوان والأحوال، ثم إنهم أخذوا يبحثون فيما أمسك عن البحث فيه السلف الصالح، ولم يوجد عنهم فيه بحث واضح، وهو كيفية تعلقات صفات الله تعالى، وتقديرها، واتخاذها في أنفسها، وأنها هي الذات، أو غيرها، وأن الكلام، هل هو متحد، أو منقسم؛ وإذا كان منقسما فهل ينقسم بالأنواع أو بالأوصاف؛ وكيف تعلق في الأزل بالمأمور؛ ثم إذا انعدم المأمور فهل يبقى ذلك التعلق؛ وهل الأمر لزيد بالصلاة مثلا هو