*_الشَّاعر والنَّاقد: وقفَةٌ تأمُّليَّة_*
كلامُ الشُّعراءِ في الشِّعرِ أصدقُ من كلامِ النُّقَّادِ، لأنَّ الشَّاعرَ يُحِسُّ القصيدةَ من داخِلِها، يُعاني مَخاضَها، ويمرُّ بأوجاعِ وِلادَتِها، فهو وحدَهُ مَن يُدرِكُ حرارةَ الكلمةِ قبلَ أن تَبرُدَ على الورقِ، ويشعُرُ بنبضِ البحرِ قبلَ أن يُحكَمَ عليهِ بالوزنِ والقافيةِ. فهو ابنُ التَّجرِبةِ، ووَلِيُّ أمرِ العاطِفَةِ، يَتحدَّثُ بلسانِ الإحساسِ لا بميزانِ القَواعِدِ، فيجيءُ حديثُهُ أصدقَ وأنفَذَ من حديثِ النُّقَّادِ، الذين يأتونَ بعدَ انقضاءِ الوِلادَةِ ليُشَرِّحوا المولودَ، ويَفصِلوا أوصالَهُ، ويَضَعوا عليهِ أحكامَهم، التي -مَهما بَلَغَتْ مِن العدلِ- تَبقَى بارِدَةً أمامَ جَمرَةِ الإبداعِ الأولى.
غيرَ أنَّ الشُّعراءَ، في حَمِيَّةِ الدِّفاعِ عن مَذاهِبِهم ومَسالِكِهم، كثيرًا ما يَجنَحُونَ إلى التَّعصُّبِ، فيُقصُونَ غيرَهم إذا حُكِّموا، ويَرَونَ في سِواهُم نَشَازًا عن نَغمَتِهم، التي يَعتَقِدُونَها الوَحيدةَ الصَّحيحةَ، بل قد يَصِلُ بهمُ الأمرُ إلى أنْ يُصوِّرُوا كلَّ مُخالِفٍ في مَسارِهِ كأنَّهُ مُتَطَفِّلٌ على الشِّعْرِ، لا يَفقَهُ أسرَارَهُ، ولا يَستَحِقُّ الانتِسابَ إليه. وفي هذِه اللَّحظَةِ يَضِيقُ أُفُقُهُم، مع أنَّ الشِّعرَ في أصْلِهِ وُجِدَ لِيَتَّسِعَ، وتَتَحوَّلُ أحكامُهم -على صِدقِها العاطِفيِّ- إلى لَونٍ من الاستِبدادِ الفَنِّيِّ، فلا يَعودُ ميزانُ النَّقدِ لديهم هو الجَمالَ، بقدْرِ ما هو الوَلاءُ لمَسْلَكِهم ومَذهَبِهم.
أمَّا النُّقَّادُ، فَهُم -أو هكذا يَنبَغي أنْ يَكونوا- أوسَعُ صَدرًا، وأرحَبُ أُفُقًا، يُمعِنُونَ النَّظَرَ في التَّجارِبِ المُختَلِفَةِ، ويُفَتِّشُونَ عن الجَمالِ حيثُ وُجِدَ، لا حيثُ يُريدونَ أنْ يكونَ، فيَرَوْنَ الشِّعْرَ من خارِجِهِ لا مِن داخِلِهِ، ويُحِيطُونَ بمَشهَدِهِ مِن العُلوِّ، فيَمتَلِكونَ سَعَةَ الرُّؤيةِ، وإنْ كانَ يَنقُصُهُم حَرارَةُ الإحساسِ. ولذَا، كانَ كلامُهم أدخَلَ في العِلمِ، لأنَّهُ كلامُ مَن يُحَلِّلُ ويُفَسِّرُ، ويَضَعُ الأشياءَ في نِصابِها، لا كلامُ مَن يُعانيها مِن داخِلِها، فيكونُ أسيرَ تَجرِبَتِهِ الخاصَّةِ، لا يَرى سِواها.
ومعَ ذلكَ، فإنَّ النَّاقدَ -مَهما سَمَتْ أدواتُهُ واتَّسَعَ أُفُقُهُ- قد يَفقِدُ أحيانًا النَّظْرَةَ النَّافِذَةَ، التي يَملِكُها الشَّاعرُ حينَ يَلتَقِطُ الصُّورَةَ في لَحظَةِ إشراقِها الأولى، قبلَ أنْ يَمسَّها التَّصنيفُ والتَّأويلُ. فالشَّاعرُ يُحِسُّ ثُمَّ يَقولُ، بينما النَّاقدُ يُفَكِّرُ ثُمَّ يَحكُمُ، ولا ريبَ أنَّ الإحساسَ أسرعُ وُصولًا مِن الحُكمِ، وأقرَبُ إلى نَبْعِ الحَقِيقَةِ، قبلَ أنْ تَتَلَوَّنَ بمَسالِكِ النَّقدِ وتَحليلاتِهِ.
وهكذا، يَظَلُّ ميزانُ الصِّدقِ مُوَزَّعًا بينَ الشَّاعرِ والنَّاقدِ:
الشَّاعرُ أصدقُ قلبًا، والنَّاقدُ أصدقُ عقلًا.
الشَّاعرُ يَرَى النُّورَ في الوَهلَةِ الأولى، والنَّاقدُ يَتَتَبَّعُ تَفاصيلَهُ.
الشَّاعرُ نافِذٌ إلى اللُّبِّ، والنَّاقدُ واسِعُ الرُّؤيةِ مُلِمٌّ بالمُحيطِ.
وإذا كانَ للشِّعرِ أنْ يَنمُوَ ويَزدَهِرَ، فلا غِنَى لهُ عن عاطِفَةِ الشَّاعرِ وميزانِ النَّاقدِ مَعًا، لأنَّ الفَنَّ الحَقَّ هو الذي يَجمَعُ بينَ صِدقِ الإحساسِ ودِقَّةِ التَّمييزِ، بينَ حَرارَةِ الرُّوحِ وبُرودَةِ العَقلِ، بينَ جُنونِ الإبداعِ ونِظامِ التَّأمُّلِ.
واللهُ أعلم.
🌴🌲
كلامُ الشُّعراءِ في الشِّعرِ أصدقُ من كلامِ النُّقَّادِ، لأنَّ الشَّاعرَ يُحِسُّ القصيدةَ من داخِلِها، يُعاني مَخاضَها، ويمرُّ بأوجاعِ وِلادَتِها، فهو وحدَهُ مَن يُدرِكُ حرارةَ الكلمةِ قبلَ أن تَبرُدَ على الورقِ، ويشعُرُ بنبضِ البحرِ قبلَ أن يُحكَمَ عليهِ بالوزنِ والقافيةِ. فهو ابنُ التَّجرِبةِ، ووَلِيُّ أمرِ العاطِفَةِ، يَتحدَّثُ بلسانِ الإحساسِ لا بميزانِ القَواعِدِ، فيجيءُ حديثُهُ أصدقَ وأنفَذَ من حديثِ النُّقَّادِ، الذين يأتونَ بعدَ انقضاءِ الوِلادَةِ ليُشَرِّحوا المولودَ، ويَفصِلوا أوصالَهُ، ويَضَعوا عليهِ أحكامَهم، التي -مَهما بَلَغَتْ مِن العدلِ- تَبقَى بارِدَةً أمامَ جَمرَةِ الإبداعِ الأولى.
غيرَ أنَّ الشُّعراءَ، في حَمِيَّةِ الدِّفاعِ عن مَذاهِبِهم ومَسالِكِهم، كثيرًا ما يَجنَحُونَ إلى التَّعصُّبِ، فيُقصُونَ غيرَهم إذا حُكِّموا، ويَرَونَ في سِواهُم نَشَازًا عن نَغمَتِهم، التي يَعتَقِدُونَها الوَحيدةَ الصَّحيحةَ، بل قد يَصِلُ بهمُ الأمرُ إلى أنْ يُصوِّرُوا كلَّ مُخالِفٍ في مَسارِهِ كأنَّهُ مُتَطَفِّلٌ على الشِّعْرِ، لا يَفقَهُ أسرَارَهُ، ولا يَستَحِقُّ الانتِسابَ إليه. وفي هذِه اللَّحظَةِ يَضِيقُ أُفُقُهُم، مع أنَّ الشِّعرَ في أصْلِهِ وُجِدَ لِيَتَّسِعَ، وتَتَحوَّلُ أحكامُهم -على صِدقِها العاطِفيِّ- إلى لَونٍ من الاستِبدادِ الفَنِّيِّ، فلا يَعودُ ميزانُ النَّقدِ لديهم هو الجَمالَ، بقدْرِ ما هو الوَلاءُ لمَسْلَكِهم ومَذهَبِهم.
أمَّا النُّقَّادُ، فَهُم -أو هكذا يَنبَغي أنْ يَكونوا- أوسَعُ صَدرًا، وأرحَبُ أُفُقًا، يُمعِنُونَ النَّظَرَ في التَّجارِبِ المُختَلِفَةِ، ويُفَتِّشُونَ عن الجَمالِ حيثُ وُجِدَ، لا حيثُ يُريدونَ أنْ يكونَ، فيَرَوْنَ الشِّعْرَ من خارِجِهِ لا مِن داخِلِهِ، ويُحِيطُونَ بمَشهَدِهِ مِن العُلوِّ، فيَمتَلِكونَ سَعَةَ الرُّؤيةِ، وإنْ كانَ يَنقُصُهُم حَرارَةُ الإحساسِ. ولذَا، كانَ كلامُهم أدخَلَ في العِلمِ، لأنَّهُ كلامُ مَن يُحَلِّلُ ويُفَسِّرُ، ويَضَعُ الأشياءَ في نِصابِها، لا كلامُ مَن يُعانيها مِن داخِلِها، فيكونُ أسيرَ تَجرِبَتِهِ الخاصَّةِ، لا يَرى سِواها.
ومعَ ذلكَ، فإنَّ النَّاقدَ -مَهما سَمَتْ أدواتُهُ واتَّسَعَ أُفُقُهُ- قد يَفقِدُ أحيانًا النَّظْرَةَ النَّافِذَةَ، التي يَملِكُها الشَّاعرُ حينَ يَلتَقِطُ الصُّورَةَ في لَحظَةِ إشراقِها الأولى، قبلَ أنْ يَمسَّها التَّصنيفُ والتَّأويلُ. فالشَّاعرُ يُحِسُّ ثُمَّ يَقولُ، بينما النَّاقدُ يُفَكِّرُ ثُمَّ يَحكُمُ، ولا ريبَ أنَّ الإحساسَ أسرعُ وُصولًا مِن الحُكمِ، وأقرَبُ إلى نَبْعِ الحَقِيقَةِ، قبلَ أنْ تَتَلَوَّنَ بمَسالِكِ النَّقدِ وتَحليلاتِهِ.
وهكذا، يَظَلُّ ميزانُ الصِّدقِ مُوَزَّعًا بينَ الشَّاعرِ والنَّاقدِ:
الشَّاعرُ أصدقُ قلبًا، والنَّاقدُ أصدقُ عقلًا.
الشَّاعرُ يَرَى النُّورَ في الوَهلَةِ الأولى، والنَّاقدُ يَتَتَبَّعُ تَفاصيلَهُ.
الشَّاعرُ نافِذٌ إلى اللُّبِّ، والنَّاقدُ واسِعُ الرُّؤيةِ مُلِمٌّ بالمُحيطِ.
وإذا كانَ للشِّعرِ أنْ يَنمُوَ ويَزدَهِرَ، فلا غِنَى لهُ عن عاطِفَةِ الشَّاعرِ وميزانِ النَّاقدِ مَعًا، لأنَّ الفَنَّ الحَقَّ هو الذي يَجمَعُ بينَ صِدقِ الإحساسِ ودِقَّةِ التَّمييزِ، بينَ حَرارَةِ الرُّوحِ وبُرودَةِ العَقلِ، بينَ جُنونِ الإبداعِ ونِظامِ التَّأمُّلِ.
واللهُ أعلم.
🌴🌲