المطلب الثالث
سياسة الشيطان في غواية الإنسان
هذا العنوان عام، والمقصود خاصِّ بالباب الذي نعالجه.
وبعد..
فإنّ الشيطانَ لما طرد من رحمة اللّٰه لم يحتمل أن ينجو بنو آدم دونه، وقد أدرك أن نقطة الضعف فيهم هي نظام الشهوات الذي ركبه اللّٰه فيهم، ومن هنا اتخذ من كشف العورات منطلقًا لخطة إغوائهم؛ كما قال تعالى: قَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَنُ لِيُبْدِىَ لهُمَا مَا وُرِىَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَآتهِمَا) [الأعراف: ٢٠]، وذلك عبر جسر الوعود المزيفة من الترغيب بالخلود والملك الدائم، ولهذا {قَالَ يَآدَمُ هَلْ أَدُلَّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكِ لَا يَبْلَىٰ ) [طه: ١٢٠].
ثم أراد خلع عمود الإيمان من القلب سعيًا في توحيد المصير بدخول نار السعير، وإن فشل فلا أقل من خلخلة ذلك العمود ليدخل المؤمن النار أولاً وإن دخل الجنة آخرًا، وفي أضعف الأحوال ينجح في حط درجته في الجنة، وبهذا تلتقي جميع الخطط في زحزحة مادة الإيمان عن القلب كلها أو بعضها.
وهذه الأهداف الكبيرة لا بد لها من خطط معقدة.
وفي وضوحٍ تامّ بيَّن اللّٰه جل وعلا علاقتنا بالشيطان بقوله:
( إِنَّ الشَّيْطَنَ لَكُمْ عَدُوٌ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوًا) [فاطر: ٦]..
وبدأت المعركة على هذا الأساس، ولنتصور قلب المؤمن حصنا مستهدفا لقلع مادة الإيمان منه، والأعمالُ الفاضلةُ والصفات الحسنة الساكنة فيه بمثابة الجنود الذين سيصدون اعتداء الشياطين.
وبدأت المعركة!.
وأول أخبار المواجهات بيننا وبينه بدأت بتقدم الشيطان وجنده إلى الحصن، وفرضوا عليه حصارًا رباعيًا أعلمتنا به سورة الأعراف عبر تسجيل تهديد الشيطان لبني آدم بقوله: { ثُمَّ لَـَٔاتِیَنَّهُم مِّنۢ بَیۡنِ أَیۡدِیهِمۡ وَمِنۡ خَلۡفِهِمۡ وَعَنۡ أَیۡمَـٰنِهِمۡ وَعَن شَمَاۤىِٕلِهِمۡۖ وَلَا تَجِدُ أَكۡثَرَهُمۡ شَـٰكِرِینَ }
[سُورَةُ الأَعۡرَافِ: ١٧]؛ أي: لآتينهم من جميع الجهات بالتزهيد في الآخرة، والترغيب في الدنيا، وإلقاء الشبهات وتحين الشهوات.
وما إن أحس المؤمنون بتقدم العدو حتى امتشقوا السلاح، واعتلوا الأسوار، وأعدوا خطط الدفاع سريعًا، وقام من يُحرض المؤمنين على القتال، ويرغب في الشهادة، ويزهد في الدنيا، وينفر من التثاقل إلى الأرض، وتمكن المجاهدون بهذا لمستوى من الجهوزية العسكرية من صد كل محاولة لاختراق الحصن، وكلما أعاد الشيطان الكرّة ضُرب جنده بالحديد، وانتكسوا من جديد.
وبقي النزال على هذا الحال أيامًا وأسابيع!.
وبدأ اليأس يسيطر على القوات الشيطانية، وأخذ الإحباط منهم كل مأخذ، حتى اضطر الشيطان لإعادة التخطيط والتدبير، وأخيرًا لاحت في ذهنه فكرة خطيرة! فكرةٌ كفيلة بنزع سلاح القوم من غير قطرة دم! بل وقادرة على إخضاع المجاهدين لتسليم أنفسهم بأنفسهم، فها الذي يتردد في صدره يا ترى؟!.
لما حلَّ الظلام جمع الشيطان جنده وقسَّمهم ثلاثة أقسام:
فريق يركب الخيل، وفريق راجل يمشي، وفريق مدني لا سلاح معه، وأمر الفريقين الأولين بالاختفاء عن المشهد بالكلية، والبقاء على جاهزيةٍ للهجوم، وكلّف الفريق الثالث بإنشاء معالم حياة آمنة، من بيوت وسوق وحدائق وغير ذلك، ثم عقد مهرجانات غنائية صاخبة، فيها الأكل والشرب واللهو والنساء والرقص، وهكذا!.
وتابع المجاهدون ذلك باهتهام، وما إن اكتمل البناء حتى ارتفعت أصوات الغناء، ورأى المجاهدون تمايل النساء، ومظاهر الفرح والصخب، ولا يشكَّون أن
هذا خدعة، لكن مع استمرار الحال على ذلك أيامًا تراخوا ووضعوا السلاح
مع إمكانية امتشاقه بسرعة عند أي طارى، ثم قرر عددٌ منهم النزول ليكتشفوا الأمر عن قرب، وعادوا يخبرون إخوانهم بأن القوم قرروا العيش في سلام، وانهم ملوا الحروب، وهم في النهاية أهل لذات وشهوات لا أكثر ولا أقل!.
واستطاع هؤلاء من خلال الاحتكاك المباشر أن يستميلوا بعض المجموعات المؤمنة بالمال، ووعدوهم بإصلاح الحال، فعادوا يبشرون إخوانهم أن اللّٰه كفاكم القتال، وفتح لكم بابًا من الخير، وبدأت الوفود تتتابع في النزول، وآل الأمرُ بأكثرهم إلى الاختلاط بهم، ومؤاكلتهم، وحضور حفلاتهم على ما فيها من اختلاط وفسادٍ وعورات، واقترفوا معهم السيئات!.
وفي وسط هذا التساقط المظلم ما زالت هناك فئةٌ مؤمنةٌ ثابتةٌ تصدح فيهم:
احذروا هؤلاء، لقد سقطتم في الامتحان، هذه حيلة كبرى لإبادتكم، لكن صوت هذه الفئة خافتْ في وسط صخب الكثرة الساقطة.
وصورة المشهد الآن أنّ الكثرةَ نزلت في الميدان، وأن بقيةً صالحةً ما غادرت الحصن، وما زالت على العهد تحرس الثغور الموكلة بها.
وفجأة! يأمر الشيطان جنده الذين غيّبهم عن الأنظار بالتقدم بسرعة البرق، وتتحرك القوتان الراكبة والراجلة وتتمكن من أبواب الحصن ومنافذه، ويكتشف المؤمنون أنهم وقعوا في الفخ، واستدرجوا في كمين محكم، وأنهم مُقَتّلون لا محالة، والكارثة أن السلاح عنهم بعيد، مسافةً وقلبًا، فما عادت قلوبهم على عهدها من طلب الشهادة والإقبال على الجنة، وأين ماهم فيه الآن من وسخ الشهوات مما كانوا عليه من الطهارة والخشية وبيع النفوس رخيصة في
سياسة الشيطان في غواية الإنسان
هذا العنوان عام، والمقصود خاصِّ بالباب الذي نعالجه.
وبعد..
فإنّ الشيطانَ لما طرد من رحمة اللّٰه لم يحتمل أن ينجو بنو آدم دونه، وقد أدرك أن نقطة الضعف فيهم هي نظام الشهوات الذي ركبه اللّٰه فيهم، ومن هنا اتخذ من كشف العورات منطلقًا لخطة إغوائهم؛ كما قال تعالى: قَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَنُ لِيُبْدِىَ لهُمَا مَا وُرِىَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَآتهِمَا) [الأعراف: ٢٠]، وذلك عبر جسر الوعود المزيفة من الترغيب بالخلود والملك الدائم، ولهذا {قَالَ يَآدَمُ هَلْ أَدُلَّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكِ لَا يَبْلَىٰ ) [طه: ١٢٠].
ثم أراد خلع عمود الإيمان من القلب سعيًا في توحيد المصير بدخول نار السعير، وإن فشل فلا أقل من خلخلة ذلك العمود ليدخل المؤمن النار أولاً وإن دخل الجنة آخرًا، وفي أضعف الأحوال ينجح في حط درجته في الجنة، وبهذا تلتقي جميع الخطط في زحزحة مادة الإيمان عن القلب كلها أو بعضها.
وهذه الأهداف الكبيرة لا بد لها من خطط معقدة.
وفي وضوحٍ تامّ بيَّن اللّٰه جل وعلا علاقتنا بالشيطان بقوله:
( إِنَّ الشَّيْطَنَ لَكُمْ عَدُوٌ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوًا) [فاطر: ٦]..
وبدأت المعركة على هذا الأساس، ولنتصور قلب المؤمن حصنا مستهدفا لقلع مادة الإيمان منه، والأعمالُ الفاضلةُ والصفات الحسنة الساكنة فيه بمثابة الجنود الذين سيصدون اعتداء الشياطين.
وبدأت المعركة!.
وأول أخبار المواجهات بيننا وبينه بدأت بتقدم الشيطان وجنده إلى الحصن، وفرضوا عليه حصارًا رباعيًا أعلمتنا به سورة الأعراف عبر تسجيل تهديد الشيطان لبني آدم بقوله: { ثُمَّ لَـَٔاتِیَنَّهُم مِّنۢ بَیۡنِ أَیۡدِیهِمۡ وَمِنۡ خَلۡفِهِمۡ وَعَنۡ أَیۡمَـٰنِهِمۡ وَعَن شَمَاۤىِٕلِهِمۡۖ وَلَا تَجِدُ أَكۡثَرَهُمۡ شَـٰكِرِینَ }
[سُورَةُ الأَعۡرَافِ: ١٧]؛ أي: لآتينهم من جميع الجهات بالتزهيد في الآخرة، والترغيب في الدنيا، وإلقاء الشبهات وتحين الشهوات.
وما إن أحس المؤمنون بتقدم العدو حتى امتشقوا السلاح، واعتلوا الأسوار، وأعدوا خطط الدفاع سريعًا، وقام من يُحرض المؤمنين على القتال، ويرغب في الشهادة، ويزهد في الدنيا، وينفر من التثاقل إلى الأرض، وتمكن المجاهدون بهذا لمستوى من الجهوزية العسكرية من صد كل محاولة لاختراق الحصن، وكلما أعاد الشيطان الكرّة ضُرب جنده بالحديد، وانتكسوا من جديد.
وبقي النزال على هذا الحال أيامًا وأسابيع!.
وبدأ اليأس يسيطر على القوات الشيطانية، وأخذ الإحباط منهم كل مأخذ، حتى اضطر الشيطان لإعادة التخطيط والتدبير، وأخيرًا لاحت في ذهنه فكرة خطيرة! فكرةٌ كفيلة بنزع سلاح القوم من غير قطرة دم! بل وقادرة على إخضاع المجاهدين لتسليم أنفسهم بأنفسهم، فها الذي يتردد في صدره يا ترى؟!.
لما حلَّ الظلام جمع الشيطان جنده وقسَّمهم ثلاثة أقسام:
فريق يركب الخيل، وفريق راجل يمشي، وفريق مدني لا سلاح معه، وأمر الفريقين الأولين بالاختفاء عن المشهد بالكلية، والبقاء على جاهزيةٍ للهجوم، وكلّف الفريق الثالث بإنشاء معالم حياة آمنة، من بيوت وسوق وحدائق وغير ذلك، ثم عقد مهرجانات غنائية صاخبة، فيها الأكل والشرب واللهو والنساء والرقص، وهكذا!.
وتابع المجاهدون ذلك باهتهام، وما إن اكتمل البناء حتى ارتفعت أصوات الغناء، ورأى المجاهدون تمايل النساء، ومظاهر الفرح والصخب، ولا يشكَّون أن
هذا خدعة، لكن مع استمرار الحال على ذلك أيامًا تراخوا ووضعوا السلاح
مع إمكانية امتشاقه بسرعة عند أي طارى، ثم قرر عددٌ منهم النزول ليكتشفوا الأمر عن قرب، وعادوا يخبرون إخوانهم بأن القوم قرروا العيش في سلام، وانهم ملوا الحروب، وهم في النهاية أهل لذات وشهوات لا أكثر ولا أقل!.
واستطاع هؤلاء من خلال الاحتكاك المباشر أن يستميلوا بعض المجموعات المؤمنة بالمال، ووعدوهم بإصلاح الحال، فعادوا يبشرون إخوانهم أن اللّٰه كفاكم القتال، وفتح لكم بابًا من الخير، وبدأت الوفود تتتابع في النزول، وآل الأمرُ بأكثرهم إلى الاختلاط بهم، ومؤاكلتهم، وحضور حفلاتهم على ما فيها من اختلاط وفسادٍ وعورات، واقترفوا معهم السيئات!.
وفي وسط هذا التساقط المظلم ما زالت هناك فئةٌ مؤمنةٌ ثابتةٌ تصدح فيهم:
احذروا هؤلاء، لقد سقطتم في الامتحان، هذه حيلة كبرى لإبادتكم، لكن صوت هذه الفئة خافتْ في وسط صخب الكثرة الساقطة.
وصورة المشهد الآن أنّ الكثرةَ نزلت في الميدان، وأن بقيةً صالحةً ما غادرت الحصن، وما زالت على العهد تحرس الثغور الموكلة بها.
وفجأة! يأمر الشيطان جنده الذين غيّبهم عن الأنظار بالتقدم بسرعة البرق، وتتحرك القوتان الراكبة والراجلة وتتمكن من أبواب الحصن ومنافذه، ويكتشف المؤمنون أنهم وقعوا في الفخ، واستدرجوا في كمين محكم، وأنهم مُقَتّلون لا محالة، والكارثة أن السلاح عنهم بعيد، مسافةً وقلبًا، فما عادت قلوبهم على عهدها من طلب الشهادة والإقبال على الجنة، وأين ماهم فيه الآن من وسخ الشهوات مما كانوا عليه من الطهارة والخشية وبيع النفوس رخيصة في