إلى الفردوس: وفي صفة الصفوة والإحياء كذلك نُقل عن توبة بن الصمة: "أنه جلس يومًا ليحاسب نفسه فعدَّ عمره، فإذا هو ابن ستين سنة، فحسب أيامها فإذا هي واحد وعشرون ألفًا وخمسمائة يوم، فصرخ، وقال: يا ويلتى، ألقى المَلَكُ بواحد وعشرين ألف ذنب! فكيف وفي كل يوم آلاف الذنوب؟! ثم خرَّ فإذا هو ميت، فسمعوا قائلًا يقول: يا لها من ركضة، إلى الفردوس الأعلى"؛ قال الغزالي رحمه الله معلقًا على هذه القصة: "فهكذا ينبغي أن يحاسب العبد نفسه على الأنفاس، وعلى معصيته بالقلب والجوارح في كل ساعة، ولو رمى العبد بكل معصية حجرًا في داره لامتلأت داره في مدة يسيرة قريبة من عمره، ولكنه يتساهل في حفظ المعاصي، والملكان يحفظان عليه ذلك: ﴿ أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ ﴾ [المجادلة: 6]".
عمر بن عبدالعزيز: ففي محاسبة النفس لابن أبي الدنيا عن عطاء قال: "دخلت على فاطمة بنت عبدالملك بعد وفاة عمر بن عبدالعزيز، فقلت لها: يا بنت عبدالملك، أخبريني عن أمير المؤمنين، قالت: أفعل، ولو كان حيًّا ما فعلت، إن عمر رحمه الله كان قد فرغ نفسه وبدنه للناس، كان يقعد لهم يومه، فإن أمسى وعليه بقية من حوائج يومه وَصَلَه بليله، إلى أن أمسى مساء وقد فرغ من حوائج يومه، فدعا بسراجه الذي كان يُسرج له من ماله، ثم قام فصلى ركعتين، ثم أقعى واضعًا رأسه على يده، تتسايل دموعه على خده، يشهق الشهقة، فأقول: قد خرجت نفسه، وانصدعت كبده، فلم يزلْ كذلك ليلته حتى برق له الصبح، ثم أصبح صائمًا، قالت: فدنوت منه، فقلت: يا أمير المؤمنين، رأيت شيئًا منك البارحة ما رأيته قبل ذلك، فما كان منك؟ قال: أجل، فدعيني وشأني، وعليكِ بشأنكِ، قالت: فقلت له: إني أرجو أن أتعِظَ، قال: إذًا أخبركِ، إني نظرت إليَّ فوجدتني قد وُلِّيتُ أمر هذه الأمة صغيرها وكبيرها، وأسودها وأحمرها، ثم ذكرت الغريب الضائع، والفقير المحتاج، والأسير المفقود، وأشباههم في أقاصي البلاد وأطراف الأرض، فعلمت أن الله سائلني عنهم، فخِفْتُ على نفسي خوفًا دمعت له عيناي، ووجل له قلبي، فأنا كلما ازددت لها ذكرًا، ازددت لهذا وجلًا، وقد أخبرتكِ؛ فاتعظي الآن أو دعي".
ما حملكِ على ما صنعتِ: وحكى صاحب للأحنف بن قيس قال: "كنت أصحبه فكان عامة صلاته بالليل، وكان يجيء إلى المصباح فيضع إصبعه فيه حتى يحس بالنار، ثم يقول لنفسه: يا أحنف، ما حملكِ على ما صنعتِ يوم كذا؟ ما حملكِ على ما صنعتِ يوم كذا؟"؛ [الزهد].
قال عبدالله بن قيس رضي الله عنه: "كنا في غزاة لنا فحضر العدو، فصِيحَ في الناس فقاموا إلى المصاف في يوم شديد الريح، وإذا رجل أمامي وهو يخاطب نفسه ويقول: أي نفسي، ألم أشهد مشهد كذا، فقلتِ لي: أهلك وعيالك؟! فأطعتكِ ورجعت، ألم أشهد مشهد كذا، فقلتِ لي: أهلك وعيالك؟! فأطعتكِ ورجعت، والله لأعرضنك اليوم على الله، أخذكِ أو ترككِ، فقلت: لأرمقنَّكَ اليوم، فرمقته فحمل الناس على عدوهم فكان في أوائلهم، ثم إن العدو حمل على الناس، فانكشفوا – أي: هربوا - فكان في موضعه، حتى انكشفوا مرات وهو ثابت يقاتل، فوالله ما زال ذلك به حتى رأيته صريعًا، فعددت به وبدابته ستين أو أكثر من ستين طعنة".
فلنحاسب أنفسنا على أوامر الله ونواهيه، وعلى كل فعل وترك، وإقدام وإحجام
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه ثم توبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
-------------------------------------------------
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، وصلاةً وسلامًا على عباده الذين اصطفى؛ أما بعد:
فيا عباد الله، أرأيتم كيف ارتبطت قلوبهم بالله، فكانوا أجسادًا في الأرض، وقلوبًا في السماء، وما إن يحصل من أحدهم تقصير أو زلة إلا ويسارع في معالجة خطئه، ومعاقبة نفسه على ذلك، حتى لا تكاد تأمره إلا بخير؟
قال الذهبي: "ويُروى أن يحيى بن يحيى شرب دواء فقالت زوجته: قم فتمشَّ في الدار، قال: "أنا أحب أن أحاسب نفسي أربعين سنة على خُطاي، فما أعلم ما هذه المشية؟"، فتأمل – أخي - حال يحيى بن يحيى كيف أنه توقف عن المشي؛ لأنه ما يعلم هذه المشية التي تريد زوجته أن يمشيها، وما ذاك إلا لأنهم كانوا يحاسبون أنفسهم عن كل خطوة، هل هي حلال؟ وهل تعود عليهم بالخير أم بالشر؟
رياح القيسي: قال مالك بن ضغيم: "جاء رياح القيسي يسأل عن أبي بعد العصر، فقلنا إنه نائم، فقال: نوم هذه الساعة؟ أهذا وقت نوم؟ ثم ولى منصرفا فأتبعناه رسولًا، فقلنا: قل له: ألَا نوقظه لك؟ فأبطأ علينا الرسول ثم جاء وقد غربت الشمس، فقلنا: أبطأت جدًّا، فهل قلت له؟ قال: هو أشغل من أن يفهم عني شيئًا، أدركته وهو يدخل المقابر وهو يعاتب نفسه، وهو يقول: أقلتِ أنوم هذه الساعة؟ أفكان عليكِ ينام الرجل متى شاء؟ وقلتِ: هذا وقت نوم؟ وما يدريكِ أن هذا ليس وقت نوم؟ تسألين عما لا يعنيكِ، وتكلمين بما لا يعنيكِ، أما إن لله عليَّ عهدًا ألَّا أنقضه أبدًا، ألَّا أوسدكِ الأرض لنومٍ حولًا، إلا لمرض جاء بكِ، أو لذهاب عقل زائل، سوءة لكِ سوءة لكِ، أما تستحين كم توبخين عن غيك؟ ألا
عمر بن عبدالعزيز: ففي محاسبة النفس لابن أبي الدنيا عن عطاء قال: "دخلت على فاطمة بنت عبدالملك بعد وفاة عمر بن عبدالعزيز، فقلت لها: يا بنت عبدالملك، أخبريني عن أمير المؤمنين، قالت: أفعل، ولو كان حيًّا ما فعلت، إن عمر رحمه الله كان قد فرغ نفسه وبدنه للناس، كان يقعد لهم يومه، فإن أمسى وعليه بقية من حوائج يومه وَصَلَه بليله، إلى أن أمسى مساء وقد فرغ من حوائج يومه، فدعا بسراجه الذي كان يُسرج له من ماله، ثم قام فصلى ركعتين، ثم أقعى واضعًا رأسه على يده، تتسايل دموعه على خده، يشهق الشهقة، فأقول: قد خرجت نفسه، وانصدعت كبده، فلم يزلْ كذلك ليلته حتى برق له الصبح، ثم أصبح صائمًا، قالت: فدنوت منه، فقلت: يا أمير المؤمنين، رأيت شيئًا منك البارحة ما رأيته قبل ذلك، فما كان منك؟ قال: أجل، فدعيني وشأني، وعليكِ بشأنكِ، قالت: فقلت له: إني أرجو أن أتعِظَ، قال: إذًا أخبركِ، إني نظرت إليَّ فوجدتني قد وُلِّيتُ أمر هذه الأمة صغيرها وكبيرها، وأسودها وأحمرها، ثم ذكرت الغريب الضائع، والفقير المحتاج، والأسير المفقود، وأشباههم في أقاصي البلاد وأطراف الأرض، فعلمت أن الله سائلني عنهم، فخِفْتُ على نفسي خوفًا دمعت له عيناي، ووجل له قلبي، فأنا كلما ازددت لها ذكرًا، ازددت لهذا وجلًا، وقد أخبرتكِ؛ فاتعظي الآن أو دعي".
ما حملكِ على ما صنعتِ: وحكى صاحب للأحنف بن قيس قال: "كنت أصحبه فكان عامة صلاته بالليل، وكان يجيء إلى المصباح فيضع إصبعه فيه حتى يحس بالنار، ثم يقول لنفسه: يا أحنف، ما حملكِ على ما صنعتِ يوم كذا؟ ما حملكِ على ما صنعتِ يوم كذا؟"؛ [الزهد].
قال عبدالله بن قيس رضي الله عنه: "كنا في غزاة لنا فحضر العدو، فصِيحَ في الناس فقاموا إلى المصاف في يوم شديد الريح، وإذا رجل أمامي وهو يخاطب نفسه ويقول: أي نفسي، ألم أشهد مشهد كذا، فقلتِ لي: أهلك وعيالك؟! فأطعتكِ ورجعت، ألم أشهد مشهد كذا، فقلتِ لي: أهلك وعيالك؟! فأطعتكِ ورجعت، والله لأعرضنك اليوم على الله، أخذكِ أو ترككِ، فقلت: لأرمقنَّكَ اليوم، فرمقته فحمل الناس على عدوهم فكان في أوائلهم، ثم إن العدو حمل على الناس، فانكشفوا – أي: هربوا - فكان في موضعه، حتى انكشفوا مرات وهو ثابت يقاتل، فوالله ما زال ذلك به حتى رأيته صريعًا، فعددت به وبدابته ستين أو أكثر من ستين طعنة".
فلنحاسب أنفسنا على أوامر الله ونواهيه، وعلى كل فعل وترك، وإقدام وإحجام
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه ثم توبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
-------------------------------------------------
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، وصلاةً وسلامًا على عباده الذين اصطفى؛ أما بعد:
فيا عباد الله، أرأيتم كيف ارتبطت قلوبهم بالله، فكانوا أجسادًا في الأرض، وقلوبًا في السماء، وما إن يحصل من أحدهم تقصير أو زلة إلا ويسارع في معالجة خطئه، ومعاقبة نفسه على ذلك، حتى لا تكاد تأمره إلا بخير؟
قال الذهبي: "ويُروى أن يحيى بن يحيى شرب دواء فقالت زوجته: قم فتمشَّ في الدار، قال: "أنا أحب أن أحاسب نفسي أربعين سنة على خُطاي، فما أعلم ما هذه المشية؟"، فتأمل – أخي - حال يحيى بن يحيى كيف أنه توقف عن المشي؛ لأنه ما يعلم هذه المشية التي تريد زوجته أن يمشيها، وما ذاك إلا لأنهم كانوا يحاسبون أنفسهم عن كل خطوة، هل هي حلال؟ وهل تعود عليهم بالخير أم بالشر؟
رياح القيسي: قال مالك بن ضغيم: "جاء رياح القيسي يسأل عن أبي بعد العصر، فقلنا إنه نائم، فقال: نوم هذه الساعة؟ أهذا وقت نوم؟ ثم ولى منصرفا فأتبعناه رسولًا، فقلنا: قل له: ألَا نوقظه لك؟ فأبطأ علينا الرسول ثم جاء وقد غربت الشمس، فقلنا: أبطأت جدًّا، فهل قلت له؟ قال: هو أشغل من أن يفهم عني شيئًا، أدركته وهو يدخل المقابر وهو يعاتب نفسه، وهو يقول: أقلتِ أنوم هذه الساعة؟ أفكان عليكِ ينام الرجل متى شاء؟ وقلتِ: هذا وقت نوم؟ وما يدريكِ أن هذا ليس وقت نوم؟ تسألين عما لا يعنيكِ، وتكلمين بما لا يعنيكِ، أما إن لله عليَّ عهدًا ألَّا أنقضه أبدًا، ألَّا أوسدكِ الأرض لنومٍ حولًا، إلا لمرض جاء بكِ، أو لذهاب عقل زائل، سوءة لكِ سوءة لكِ، أما تستحين كم توبخين عن غيك؟ ألا