عميان بسماية - بغداد
.
بين سريري، وطاولتي، ٣٠ كيلومترا.
اقتلعتُ نفسي من فراشي بصعوبة، لالتزامٍ لديّ في بغداد، وأسوأ الالتزامات ما كان في شهرٍ كسول مثل رمضان، بيومٍ فارغٍ مثل الجمعة، لكنني قمتُ، فالعمل يسحبُ المرء من أذنه، خصوصاً إن كان شخصاً لا يمتلكُ رفاهية الكسل، أو حتى إغلاق الهاتف.
لم أعر المطرَ اهتماماً، هذا الذي ظلّ يرشقُ نافذتي طوال اليوم، فبالنسبةِ لرجلٍ خرّبَ حياتَهُ في جميع الفصول، صارَ يرى المطرَ مجرّد سخافة، ماءً نازلاً من أعلى، شيئاً مملاّ، سائلاً يهطلُ، ثمّ يتبخر، ليعاودَ الصعود، ثمّ يتكاثف، ويعود مجدداً، لا علاقة له لا بالرومانسيّة ولا حتّى بفيروز، التي أحبّت حبيبها بالصيف والشتاء، بطريقةٍ ما: كلّ المشاعر هي اضطرابٌ هرمونيّ، عدا الحزن، بجلال قدره، ببذلته السوداء الغامقة جدّاً، ومنذ فترة طويلة صار المطر بالنسبة لي هو ذلك الشيء الذي يُنعش الأهوار، ويقلّل سطوة أنقرة علينا، نحن البلد المسكين في هذا الملفّ. فقط.
وبالنسبة لرجلٍ، إن سُئِلَ عن عمره أين أفناه؟ سيُجيبُ: وراء مِقود السيّارة، فإنني قدتُ بأغرب طقوس العالم، ضباب السليمانيّة الذي لا ترى منه أكثر من مترين، المطر الكثيف، الشمس الحارقة، التيْه، الثلج، كلّها قدتُ فيها، ووصلتُ سالماً، بطريقةٍ ما إلى النقطة (ص) من النقطة (س)، لأنني أؤمن أيضاً، بطريقةٍ ما، إن الرحلة التي يقوم بها رأسكَ على الوسادة قبل النوم هي الأخطر، ولن تعود منها سالماً كلّ مرة.
لكن الأغرب، اليوم، بين سريري وطاولتي، هو دربُ بغداد، المظلم، وبطريقةٍ ما، نفعتْني ذاكرتي الصورية، بالقيادة، ماسحاتُ الزجاج على أقصى سرعتِها لم تكن تنجح بمنحي زجاجاً واضحاً، خصوصاً وأنني أقودُ بلا نظّارة، فمضيتُ أقود كمن يبحثُ بغرفةٍ مظلمة عن علبة ثقابٍ بين الأدراج، والسيّارة تشقّ المياه.
وبطريقةٍ ما، مثل قططٍ مذعورةٍ، تجمّعت خمسُ سيّارات، تسيرُ خلف بعضها بهدوء وبطء، مع تشغيل الأضواء، خيط نملٍ بطيء، كلّنا لم نكن نرَ شيئاً سوى أضواء سياراتِنا، أنا على يقين أننا في ظروفٍ أخرى ربّما كنّا لنتشاتم، بسبب السرعة أو البطء، لكننا تضامنّا، وسرنا الـ ٣٠ كيلومترا، مثل أصدقاء عمر، الجيب الرصاصيّة، السنتافيا البيضاء، التاهو السوداء، السايبا الصفراء، وسيارة أخرى لم أتبيّن موديلها، صينيّة.
كانت رحلةَ عُمْر في ٣٠ كيلومترا، يتكفّل صاحب التاهو باكتشاف السايد الأوسط، لعلوّ سيارته، أما أنا، فكانت مهمّتي إضاءة الطريق المظلم باللايت الزينون، العالي، بينما قطعَ الطريق الأيمن، على حمقى الطرق الخارجيّة، صاحب السنتافيا، وكدتُ أشعرُ بالتعاطف الجماعيّ حين ينزلقُ إطار لأحد السيّارات بطسّة كبيرة، لا يحفظُ سائقُ السيّارة مكانها بالضبط، أما الأغرب فقد كان الاعتماد على البرق السريع، بإضاءة الطريق، بمشهدٍ غريب، خصوصاً وأن الماء القادم معه هو ما يحجبُ الرؤية، وليس غيره.
هذا التضامن القططيّ، بين السيارات الخمس، بين المضطرّين للخروج من شققهم المتماثلة، باتجاه العاصمة القاسية، تحت هذا المطر العجيب، ذكّرني بلوحة بيتر بروغل الكبير، "أعمى يقود عمياناً"، الفرق إننا لم نكن عمياناً تماماً، ولا مبصرين.
العمى والإبصار، الذي كنّا فيه، هو أن تكونَ أعمى لدرجة اضطراركَ للخروج للظلمة بهذا الطقس، والإبصار، أن لا تخافَ من الطريق المظلم الغارق بالماء الأسود، بقدر خوفكَ من الساعة الأخيرة قبل النوم، على الوسادة البيضاء.
.
بين سريري، وطاولتي، ٣٠ كيلومترا.
اقتلعتُ نفسي من فراشي بصعوبة، لالتزامٍ لديّ في بغداد، وأسوأ الالتزامات ما كان في شهرٍ كسول مثل رمضان، بيومٍ فارغٍ مثل الجمعة، لكنني قمتُ، فالعمل يسحبُ المرء من أذنه، خصوصاً إن كان شخصاً لا يمتلكُ رفاهية الكسل، أو حتى إغلاق الهاتف.
لم أعر المطرَ اهتماماً، هذا الذي ظلّ يرشقُ نافذتي طوال اليوم، فبالنسبةِ لرجلٍ خرّبَ حياتَهُ في جميع الفصول، صارَ يرى المطرَ مجرّد سخافة، ماءً نازلاً من أعلى، شيئاً مملاّ، سائلاً يهطلُ، ثمّ يتبخر، ليعاودَ الصعود، ثمّ يتكاثف، ويعود مجدداً، لا علاقة له لا بالرومانسيّة ولا حتّى بفيروز، التي أحبّت حبيبها بالصيف والشتاء، بطريقةٍ ما: كلّ المشاعر هي اضطرابٌ هرمونيّ، عدا الحزن، بجلال قدره، ببذلته السوداء الغامقة جدّاً، ومنذ فترة طويلة صار المطر بالنسبة لي هو ذلك الشيء الذي يُنعش الأهوار، ويقلّل سطوة أنقرة علينا، نحن البلد المسكين في هذا الملفّ. فقط.
وبالنسبة لرجلٍ، إن سُئِلَ عن عمره أين أفناه؟ سيُجيبُ: وراء مِقود السيّارة، فإنني قدتُ بأغرب طقوس العالم، ضباب السليمانيّة الذي لا ترى منه أكثر من مترين، المطر الكثيف، الشمس الحارقة، التيْه، الثلج، كلّها قدتُ فيها، ووصلتُ سالماً، بطريقةٍ ما إلى النقطة (ص) من النقطة (س)، لأنني أؤمن أيضاً، بطريقةٍ ما، إن الرحلة التي يقوم بها رأسكَ على الوسادة قبل النوم هي الأخطر، ولن تعود منها سالماً كلّ مرة.
لكن الأغرب، اليوم، بين سريري وطاولتي، هو دربُ بغداد، المظلم، وبطريقةٍ ما، نفعتْني ذاكرتي الصورية، بالقيادة، ماسحاتُ الزجاج على أقصى سرعتِها لم تكن تنجح بمنحي زجاجاً واضحاً، خصوصاً وأنني أقودُ بلا نظّارة، فمضيتُ أقود كمن يبحثُ بغرفةٍ مظلمة عن علبة ثقابٍ بين الأدراج، والسيّارة تشقّ المياه.
وبطريقةٍ ما، مثل قططٍ مذعورةٍ، تجمّعت خمسُ سيّارات، تسيرُ خلف بعضها بهدوء وبطء، مع تشغيل الأضواء، خيط نملٍ بطيء، كلّنا لم نكن نرَ شيئاً سوى أضواء سياراتِنا، أنا على يقين أننا في ظروفٍ أخرى ربّما كنّا لنتشاتم، بسبب السرعة أو البطء، لكننا تضامنّا، وسرنا الـ ٣٠ كيلومترا، مثل أصدقاء عمر، الجيب الرصاصيّة، السنتافيا البيضاء، التاهو السوداء، السايبا الصفراء، وسيارة أخرى لم أتبيّن موديلها، صينيّة.
كانت رحلةَ عُمْر في ٣٠ كيلومترا، يتكفّل صاحب التاهو باكتشاف السايد الأوسط، لعلوّ سيارته، أما أنا، فكانت مهمّتي إضاءة الطريق المظلم باللايت الزينون، العالي، بينما قطعَ الطريق الأيمن، على حمقى الطرق الخارجيّة، صاحب السنتافيا، وكدتُ أشعرُ بالتعاطف الجماعيّ حين ينزلقُ إطار لأحد السيّارات بطسّة كبيرة، لا يحفظُ سائقُ السيّارة مكانها بالضبط، أما الأغرب فقد كان الاعتماد على البرق السريع، بإضاءة الطريق، بمشهدٍ غريب، خصوصاً وأن الماء القادم معه هو ما يحجبُ الرؤية، وليس غيره.
هذا التضامن القططيّ، بين السيارات الخمس، بين المضطرّين للخروج من شققهم المتماثلة، باتجاه العاصمة القاسية، تحت هذا المطر العجيب، ذكّرني بلوحة بيتر بروغل الكبير، "أعمى يقود عمياناً"، الفرق إننا لم نكن عمياناً تماماً، ولا مبصرين.
العمى والإبصار، الذي كنّا فيه، هو أن تكونَ أعمى لدرجة اضطراركَ للخروج للظلمة بهذا الطقس، والإبصار، أن لا تخافَ من الطريق المظلم الغارق بالماء الأسود، بقدر خوفكَ من الساعة الأخيرة قبل النوم، على الوسادة البيضاء.