Фильтр публикаций






يقول فيودور دوستويفسكي: أنا أعرف أني سيء في الحب، لكني أحببتك بكل ما أملك من سوء.


_ لقد مر عام.
أراد ريان أن يطمئن قلبه فسأل..
_ تزوجتي؟
_ بالتأكيد لا.
_ ولما التأكيد؟
تلعثمت حفصة فحاولت تغيير الموضوع..
_ أنس، يجب أن تخلد للنوم.

نام أنس وخرجا إلى الصالة ليكملا حديثهما..
_ ماذا فعلت هناك؟ ولما رحلت إن كنت ستعود؟
_ قدمت استقالتي.
_ ماذا؟
_ سأخبركِ بكل شيء.
فلاش باك..

_ لماذا تريد الاستقالة والعودة لكوكبك أبد الظهر يا ريان؟ هل أزعجك أحد هنا؟
_ لا يا سيدي، لكنني أحببت الاستقرار هناك.
_ هناك شر ومشاعر الكره تملأ الكوكب بأكمله والخير قلة قليلة، فلما التضحية بالخير الدائم في كوكبنا والتطور الذي احدثناه؟ هل هناك شيء يستحق أن تترك كل هذا من أجله؟
_ هي تستحق ذلك، فالخير بجوارها والطمأنينة في ابتسامتها، تستحق أن أضحي بأغلى ما أملك فقط لإسعادها.
_ عند الحب نقق جميعا احتراما له، ولا نملك الرفض، لأننا قد نرفض أوامر شخص لكننا لا نستطيع رفض أوامر قلب، عد إلى حبيبتك وهنيئا لك إن وجدت من تستحق قلبك، وبالأخير هي حياتك
باك..

نظر في عينيها وتحدثت عيناه بكل ما يريد فلو صمت بعدها لما أثر..
_ أحببتك يا حفصة، لذلك عدت.

يحتاج الأمر لبعض من الصبر حتى يلتحم ضلعك بمن يشبهك.

الحب هو أسمى الأشياء التي قد نصل إليها، والمحب يضحي ولا يتحدث فقط كالبغبغاء، فكثير الكلام دائما ما يكون قليل الفعل، آمن بالحب إن رأيت أفعالا.

_ ما رأيك أن نزور المقابر اليوم؟
_ موافق هيا بنا.
قرأت حفصة الأدعية لوالديها وكان معها زوجها الحبيب الذي حارب من أجل سعادتها كثيرا، جاء ريان من خلفها..
_ أنا معكِ وسأعوضك قدر استطاعتي.
_ واثقة بك ولذلك أحببت الحياة، لم تعطيني الأيام الفرصة الكافية للحزن عليهما، علمتني الدنيا أمور كثيرة وظهرت أنت في منتصف البلاء وكأنك زهرة تنبت من العدم.
_ رحم الله موتانا، وبارك الله في أعمارنا لنعبده معا.

ما أجمل أن ترزق بشريك يعينك على طاعة الله وعبادته، يمسك بيدك للهدف الذي خلقت من أجله وهو الجنة.

وقفت حفصة عند أول المقابر قليلا..
_ ما الذي أوقفكِ؟
_ التقط لي صورة هنا.
رد عليها بتعجب..
_ بجانب المقابر؟
_ دعني أسألك سؤالا، لو جائك اتصال الآن أنك ربحت في اليانصيب وربحت البيت الأبيض في أمريكا، هل ستلتقط معه الصور؟
_ في كل زاوية، فلقد أصبح ملكي.
_ وهذه المقابر ملكنا، ومنازلنا التي ليس لنا غيرها، حتما سنأتي هنا، ولكننا ننسى دائما هذه الحقيقة المفجعة، ونصارع بعضنا على هذه الدنيا التي هبط إليها سيدنا آدم عقابا، نحارب من أجل الخلود فيها ونحن نعلم أن كل من عليها فان، نبحث عن الفضائح في أعراض الناس، نعاير الفتاة التي لم تتجوز بعد، ونعاير المطلقة، والأرملة، نظلم المظلوم قوق ظلمه ظلمات مضاعفة، ونعلم أننا خطأ ونمضي، وننسى أن هذا مكاننا بمفردنا لن ينفعنا ما قلنا ولن يضرنا ما قالوا، هذه المقابر هي بيوتنا التي سنسكنها الآن أو لاحقا، فلما لا نتجهز لها.
_ لنلتقط صورة معا إذن.

كلنا لآدم، وآدم من تراب، فلِمَا كل تلك الصراعات على دنيا هبط إليها أبو البشر عقابا، جهزوا لآخراكم ودعوا الأنام يعيشون حياتهم بسلام دون سحر أو تدخل في حياتهم بطريقة قد تزعجهم بإسقاط قد، العزباء ستتزوج والمطلقات سيجدن من يشبههن والأرملة سيأتي من يعوضها، هي مسألة وقت ليس أكثر، ولكل أنثى ضلع قد خلقت منه

تم بحمد الله.
راتيل سعد.


_ بالنسبة لكِ، عندما أخبرتيني أنكِ شممت رائحة قرفة بعد وفاة أمك شككت في الأمر فرتبت لخطة تجعل زوجة أبيك تعترف بنفسها..

فلاش باك...
_ قل لي ماما، فأنا أم خطيبتك.
_ حسنا يا أمي، أريد التحدث معكِ، حفصة تكرهك جدا.
_ أعلم ذلك يا بني.
_ ولكن ما تجهلينه أنها تخطط لقتلك، لذا يجب أن نتخلص منها أولا.
_ وكيف يا بني؟
_ يجب أن نبحث يا أمي، فالروح لا يأتي بعدها روح، يجب أن نتخلص منها حتى تترك لكم المحكمة التركة بأكملها.
_ هل تفكر في شيء؟
_ أجل، أنتِ قلتِ لها أن القاتل لا يرث، لما لا نجعل هذا حقيقة ونتهمها بالقتل ونثبت عليها التهمة؟
_ كيف؟
_ يجب أن يتواجد أداة للجريمة.
_ ستساعدني أليس كذلك؟
_ أجل يا أمي، ولكن فكري معي كيف نثبت عليها التهمة؟
_ تعالى معي.
_ إلى أين؟
_ ستعرف ولكن تعالى أولا.
ترجل ريان ورائها حتى وصلا للمطبخ، أخرجت بعض الأشياء ووضعتها على بعضها البعض وجاءت بقرفة ووضعتها عليهم..
_ ما هذا يا أمي؟ أخبركِ أنني أريد التخلص منها وأنتِ تصنعين القرفة.
ضحكت بصوت مرتفع..
_ أنت أبلها بحق، ما هذه الطيبة؟ انظر ريان هذا سم قاتل ومعه سحر أسود يسوق شاربه للموت فورا، ولكن رائحته نفاذة فنضع عليه القرفة لتغطي على رائحته.
_ وكيف علمتِ ذلك؟ ومن أين جئت بهذا السم؟
صمت ثم أتبع ..
_ أقتلتِ والديها؟ يا لكِ من ذكية يا أمي.
_ أجل فعلت ذلك من أجل المال.
_ فخور بكِ ومعجب بذكائكِ يا أمي، اسمحي لي برفع القبعة لكِ.
ضحكا معا وتمت خطتهم على أكمل وجه، وتم القبض على حفصة بتهمة قتل والديها، فأصبحت يتيمة، قاتلة ومطلقة، يا لها من أثقال تحملها بمفردها وتواجه بها العالم دون أن يساندها أحد، ولكن في نهاية المطاف هي دنيا وإن ظُلمت في الدنيا فحتما ستُنصر أمام رب العزة، ودت حفصة حينها لو أن والدها ما زال على قيد الحياة ليساندها، كانت كلما تذكرته تبكي وكلما أرادت التحدث عنه لا يسلم كلامها من البكاء بل لا يسلم البكاء من كلامها، كانت تتمنى لو أن البكاء ينازعها ويرحل حتى تتحدث عن مدى اشتياقها لوالدها، حرموها من والديها وسلبوا منها حق الحزن، ما كل تلك القسوة؟

باك..

كانت حفصة تستمع إليه وعينيها مفتوحين إثر الصدمات التي تلقتها، فلوح ريان بكفه أمام عينيها..
_ حفصة، هل أنتِ بخير؟
_ لدي ألف سؤال.
_ سأجيب على كل شيء، تفضلي.
_ كيف جعلتهم يثقون بكَ؟
_ عن طريق التنويم المغتاطيسي واقتحام عقولهم وإقناعهم بأي شيء، كما أقنعت حمزة أنني صديقه وأقنعت أنس أنني خاله، وكما فعلت منذ قليل معكِ.
_ وكيف جعلتهم يحبونك؟
_ أرى أنها نفس الإجابة.
_ وهل أقنعت جميع من حولك أن يحبوك؟
نظر إليها ريان بحب..
_ أجل، عداكِ.
_ لماذا؟ رغم أنه سهل بالنسبة لك.
_ لأنني أحببتك، والحب الصادق لا يأتي بهذه الطريقة، أردت أن تبادليني الشعور بكل قواكِ العقلية، دون أن أتدخل.
تنهدت حفصة ونظرت إليه بحزن يكسوه الحب..
_ والآن ماذا؟
_ يجب أن أذهب إلى كوكبي الآخر.
_ ستتركني؟
انتبهت لما قالت وتلعثمت..
_ اقصد، ست.. ستترك أنس وحمزة؟
_ سأعود يوما، وأتمنى أن تكونوا ما زلتم على قيد الحياة.
تجمعت الدموع في عينيها وتحدثت بحزن ظهر في كل حرف قالته..
_ حتى أنت سترحل؟
تنهد ريان وهو يحاول منع عينيه من البكاء..
_ سامحيني، لا أملك غير ذلك.
وقف ريان في منتصف المطعم وكانت الدموع هي من تتحدث، ثم احاطته هالة من الضوء واختفى.
مر عام حزن آخر على قلب حفصة، وكأن العالم لا يريدها أن تفرح، كانت تجلس في أحد الأيام بجانب أنس وتحكي له بعض القصص فهي تسكن معه بعدما أخذت ورثها وهدئ بالها قليلا..
_ هل يمكننا النوم يا سيد أنس؟
هم أنس أن يجيب ولكن انقطعت الكهرباء فتسرب الخوف لفؤاده..
_ لا والله لن تخرجي من هنا، أتمزحين لقد انقطعت الكهرباء.
_ ما هذا الرعب؟
ثم جاء ضوء لثواني من تحت الباب واختفى وأصدر صوت لبعض الخطوات، فانفجرت أساريرهما وتحركت أعينهما في محجريهما بجنون.
فُتح الباب فصرخ أنس وحفصة حتى بُح صوتهما..
_ هذا أنا، لما هذا الصراخ والخوف؟
نظرا لبعضهما وعيناهما اتسعت أكثر إثر الصدمة وقالوا في نفس الوقت..
_ ريان؟ كيف؟ ومتى؟ وأين؟

ضحك ريان ثم راح يجلس بجوارهما، فتحدث أنس..
_ حفصة، لستِ بكامل حجابك.
_ هو ليس واقعا، نحن نتخيل.
ثم أدركت ماذا يحدث وماذا تقول..
_ ولكن كيف سنتخيل نفس الشيء في وقت واحد؟
ثم صرخت واندثرت تحت الغطاء وأمرت أنس بأن يأتي لها بملابس الصلاة، ولفت الغطاء عليها واتجهت إلى الحمام لترتدي ملابسها ثم خرجت..
_ أنت حقيقة أم خيال؟ وبارع أيضا في إقناعنا بوجودك؟
_ أخبرتك ذات مرة أن المشاعر الصادقة لا أحب أن أغيرها.
_ كيف عدت؟
_ لم أقضِ هناك سوا يومين.


هدوء العواصف
الفصل الآخير

ثم ألقي القبض على حفصة، ترجلت معهم وهي تبكي وتترجاهم أن يتركونها وشأنها فهي لم تؤذي أحدا، ولا داعي لذكر عدد المرات التي عبرت فيها عن كرهها لهم.
مر الوقت وكانت حفصة تندب حظها وتبكي وتدعوا الله على من كان سببا في كل هذا فهي في مكان لا يشبه صفاء قلبها ولين تعاملها، وجاء موعد محاكمتها..
_ حفصة، أنتِ متهمة بقتل أبيك وأمك.
_ ومن ذا المجنون الذي يفعل هذا؟ أنا لم أقتل أحدا.
_ لقد أخبرت ريان ذات مرة _ وهو أحد الشهود _ أنكِ شممت رائحة قرفة فور دخولك البيت بعد موت أمك.
_ نعم وشممتها في وفاة أبي، المشترك بين وفاتهما هي رائحة القرفة.
_ لذلك بحث ريان في الموضوع وقرر إما إثبات التهمة عليكِ او عدمه، وبالأدلة الماثلة أمامنا نحن أعضاء المحكمة، وهي اعترافات بلسان زوجة أبيكِ أنها من فعلت ذلك، قررنا نحن بإحالة أوراق حرم المرحوم خالد وابنتها إلى فضيلة المفتي، وإثبات البراءة للمتهمة حفصة.
كانت حفصة تائهة لا تعلم ماذا يحدث، وهل كل هذا بفضل دعائها، هل فعلا الدعاء يصنع المستحيل؟ كيف بين ليلة وضحاها حدث كل هذا؟
قاطع حبل أفكارها صوت أنس وهو يركض نحوها..
_ اشتقت إليكِ يا حفصة.
_ أنت تتحدث يا أنس، اللهم بارك.
_ دعكِ من حديثي، ما رأيك بما فعله ريان معكِ؟
_ لم يعطوني الفرصة لأحزن على أبي يا أنس، وأنا لم أفهم بعد ماذا حدث؟ لكن كل ما أعلمه أنني أكرهه لأنه السبب في حدوث كل هذا.
جاء صوت ريان من ورائها..
_ لكنكِ رأيتِ الأشياء من زاوية واحدة، هل يمكنني أن أشرح لكِ؟
_ بت أكره صوتك.
_ فرصة واحدة لأثبت فيها حسن نيتي.
_ تفضل.
_ لنذهب لمكان نأكل فيه ونتحدث.
_ أستصاحبني؟
_ وربما شيء أكبر من هذا، تعالي معي.
ذهبت حفصة معه بعدما اخذ حمزة أنس معه إلى البيت، جلسا في مكان لا يوجد فيه سواهما..
_ حسنا، أخبرني ماذا تريد؟
نظر إليها ريان بهُيام..
_ اشتقت إليكِ.
تجمدت ملامح حفصة وردت ببرود..
_ ماذا؟ جئت بي إلى هنا لقول هذا؟
_ شعرت أنني أريد قول هذا، حسنا، انظري يا حفصة، أنا آدمي ومن مخلوقات الله.
قامت حفصة بتمثيل الصدمة وتحدثت بسخرية..
_ ما هذه المعلومات الغريبة التي أسمعها؟ هل تمزح يا ريان؟ مع الوقت ستخبرني أن عروقك يسير فيها الدم.
_ نعم كنت سأقول ذلك.
_ سأذهب.
وهمت بالوقوف ولكن تحدث هو بالمنطق أخيرا..
_ عمري ثلاثون ولم أقضِ منهم في الأرض سوا عشرة.
جلست حفصة لتستوعب ما قال..
_ ما هذا المزاج إن لم تكن على الأرض فأين ستكون على كوكب آخر مثلا؟
فرح ريان لأنها سهلت عليه بعض الأمور..
_ بالفعل كما قلتِ.
_ فقدت عقلك أليس كذلك؟
_ أرجوكِ أن تفهميني، سأخبرك بكل شيء إن شئت صدقتي وإن لا فلا.
ملأ ريان صدره بالهواء وأتبع..
_ أنا آدمي لكنني سكنت كوكبا آخر يبعد عن كوكبنا هذا آلاف السنين الضوئية، عمري الحقيقي ليس ثلاثون بل تجاوزت القرن، وأنس ليس ابن شقيقتي وحمزة ليس صديقي منذ الصغر، فلو كان صديقي لكنتِ رأيتني ولو مرة معه، لدي القدرة على إضافة معلومات ومحوها من رأس الأنام وهذا أمر بسيط في كوكبي الآخر فهناك يوجد التطور والحب ولا مكان للشر، كل ما توصلنا إليه في الأرض هي أمور بدائية في كوكبهم، التطور الذي توصلوا إليه لا يمكن أن يخطر على عقل آدمي، يفوق الوصف يا حفصة.
_ وهل مطلوب مني أن أصدق ذلك؟
ثم ضحكت وأتبعت بسخرية..
_ تمحو وتضيف معلومات لعقل الإنسان كيف؟ إذا كان المتكلم مجنون فإن المستمع عاقل.
_ سأثبت ذلك الآن، ثم نظر إلى عينيها بثبات وقال ( لكني متيم يا حفصة ) هل سمعتِ تلك الكلمات من قبل؟
كانت حفصة تضحك بسخرية بالغة..
_ لا.
_ ذاك اليوم الذي فزِع أنس وذهبتِ لتهدئة روعه، عندما خرجتِ من الغرفة هل تذكرين ماذا رأيتِ؟
بدأت الإبتسامة تتلاشى من على وجهها وتحدثت بصدمة وهي تحاول جمع حروف اللغة..
_ كان هناك ضوء في غرفتك ورجل يخبرك أنه بقي لك شهر وتعود، سألتك حينها إلى أين ومن هذا؟ لكنك لم تجب، كيف؟ كيف لم أسألك ثانية؟ وكيف تهربت من الإجابة؟ وما هذه الهالة التي أحاطت به واختفى؟
_ رأيتِ أنني يمكنني إضافة ومحو ما شئت؟ كان هذا صديقي من كوكبي الآخر جاء ليخبرني أنه عليّ العودة، كان هذا إجابة عن سؤالك من هذا، أما سؤال كيف تهربت من الإجابة فلقد قلتُ لكِ لكني والله متيم يا حفصة وكانت هذه هي وسيلتي لأجعلك تنسين كل ما رأيتِ ووسيلتي التي استخدمتها الآن لأجعرك تتذكرين ما حدث...
_ ماذا حدث لوالد أنس ووالدته؟
_ عندما أردت العودة إلى الأرض، هبطت بالخطأ على الطريق أمامها فاصطدما في جبل بجوارهما وماتا، وكان أنس معهما فمحوت كل هذا من ذاكرته واقنعته بأنني شقيق أمه..
صمت ليرى تأثير كلامه عليها لكنها من هول الصدمة سكتت، فأتبع..


هدوء العواصف
الفصل السادس

وصلت حفصة إلى البيت لكنها لم تسلم من لسان جارتها السليط، وكانت كعادتها تبتسم في وجوههم جميعا وتبكي منفردة، وكأن دموعها خجولة لا تظهر أمام أحد، دخلت منزلهم وشمت رائحة قرفة فتذكرت أمها وبكت، راحت تبحث عن أبيها حتى تُسلم عليه، فدخلت غرفة المعيشة وجدته نائما على الأريكة..
_ أبي، لماذا تنام هنا؟
لم يجيب فكررت كلامها علّه نائم وسيستيقظ، لم تجد رد ولا نبض ولا حركة كما أن التنفس أيضا لم يكن موجود، فملأت المكان بالبكاء واتصلت بسيارة الإسعاف ومن ثمّ بريان.
جاء ريان مسرعا إليها ليقف بجوارها ويهون عليها ما تمر به، دخلت حفصة لغرفة فارغة لتصلي وتدعوا الله بمعجزة تعيد أباها للحياة ثانية، وفور خروجها وجدت ريان يقف مع زوجة أبيها وابنتها ويضحك..
_ حفصة، تعالي، إن زوجة أبيكِ لطيفة وأحببت ابنتها كثيرا.
وظر إلى ابنتها فابتسمت بخجل..
_ حمقى تشبهون بعضكم، أشتكيهم إليك وتصبح منهم، لا أعلم من منا الأحمق الآن، قتلتِ أبي هو أيضا وفعلتِ ما تريدينه؟
_ ألم تملي من تلك الكلمات المكررة؟ لم أقتل أحد.
خرج الطبيب وأخبرهم أنه مات، انهارت حفصة وكلما جاء ريان ليهون عليها أبعدته، وظلت تبكي في حرقة، دخلت الغرفة لتلقي عليه نظرة الوداع..
_ أبي، لا أعلم ماذا أقول، كنت تسألني دائما كيف حالك فأخبرك أنني بخير دمت معي، أنا لست بخير يا أبي، لن يزورني الخير بعد الآن، لم نتفق على ذلك، كنت أعيش لأجلك وأنت لم تُصارع للبقاء معي وقت إضافي، أنت لم تنتظرني حتى لأودعك يا أبي، ستتركني في هذه الدنيا وحيدة دون ونيس، أخبرك سرا هذه ليست دنيا، هي غابة وهم وحوش ولقد تركت أرنبتك بينهم، كيف ستطمئن عليّ؟
دخل الطبيب ليخبرها أنه حان وقت خروجه..
انتهت مراسم الصلاة على الميت ودفنه، وعندما عادت حفصة إلى البيت وقفت زوجة أبيها على الباب ومنعتها من الدخول وأخبرتها أنها جمعت كل أشيائها في هذه الشنطة وأنها لا تريد رؤيتها مرة أخرى في هذا البيت، والذي أصاب حفصة بالحزن أكثر أن ريان كان واقفا بجانب زوجة أبيها ويبتسم.
_ وورثي يا زوجة أبي؟
_ ليس لكِ أي شيء هنا كما سمعتِ.
_ يمكنني أن آخذه بالقانون.
_ سأخبرهم أنكِ قتلتيه، والقاتل لا يرث يا عزيزتي، اغربي عن وجهي ولا أريد رؤية وجهك اللعين ثانية.
لملمت حفصة شتات نفسها وجميع أشيائها ورحلت، إلى أين؟ لا نعلم وهي أيضا لا تعلم.

لقد خلقنا الإنسان في كبد، ملخص كل شيء يحدث في حياتنا.

بعد مرور أيام لم تأتِ فيهم حفصة إلى أنس، فخرج وجلس بجوار ريان ونظر إليه بغضب وتحدث أخيرا..
_ أنا أكرهك، أنت السبب في عدم قدوم حفصة إلى هنا أليس كذلك؟ دائما كنت تتشاجر معها وتنهرها على أي شيء، هي من أحبتني بصدق بعد أمي رحمها الله، وها أنت تحرمني منها، لكنها صديقة بحق فهي تتصل بعمي حمزة وتجعله يرافقني إليها لأجلس معها.
نظر إليه ريان بفرح..
_ أنس لقد تحسنت حالتك وعدت للحديث ثانية.
هم أن يحتضنه ولكن أبعده أنس عنه..
_ عدت للحديث ولم أعد إليك، رجّع لي حفصة أولا لأحبك ثانية.
_ أخبرني أين هي لأعيدها؟
فرح أنس وأخبره عن مكانها.
في صباح اليوم الباكر همت حفصة بالخروج من المسجد الذي اعتكفت فيه، فهو أكثر الأماكن أمانا ولا يغلق في وجه أحد، مشرد كان أو عزيزا، وجدت أمامها زوجة أبيها وريان وخطيبته كما علمت من حمزة أنه خطبها..
_ جئتِ لطردي من المسجد أيضا؟
_ بل جئت لآخذك لسكنك الجديد.
ثم ألقي القبض على حفصة، ترجلت معهم وهي تبكي وتترجاهم أن يتركونها وشأنها فهي لم تؤذي أحدا، ولا داعي لذكر عدد المرات التي عبرت فيها عن كرهها لهم.
مر الوقت وكانت حفصة تندب حظها وتبكي وتدعوا الله على من كان سببا في كل هذا فهي في مكان لا يشبه صفاء قلبها ولين تعاملها، وجاء موعد محاكمتها..

_ راتيل سعد.


_ حفصة، هل لاحظت شيئا فور دخولك المنزل بعد وفاة أمك جعلكِ تقولين هذا؟
_ شيئا مثل ماذا؟
_ رائحة شيئ او أثار قتل؟
_ لا والله، بل كانت أمي تصنع مشروب القرفة وكانت رائحته ذكية في المطبخ، وكان كل شيء هادئا.
_ رحمها الله، سيظهر الحق إن شاء رب العزة، احتسبي واصبري.
_ آمين، سأذهب إلى البيت الآن، في أمان الله.

_ راتيل سعد.


هدوء العواصف
الفصل الخامس

أخذ حمزة صديقه ريان ودخلا لغرفة المعيشة..
_ أرجوك أن تهدأ.
_ لتخرجها من البيت إذن.
_ لقد أحبها أنس، وأنا واثق بأنها تستطيع أن تعالجه، فحفصة لطيفة إلى أبعد حد، كان جميع الطلاب يحبونها، ولكن ولا مرة رأيت لها صديق مرافق لها دائما، فهي صديقة الجميع، ولأول مرة يحب حمزة نفرا جديدا يدخل البيت.
_ لكنها تستفزني.
_ أنت من قمت باستفزازها أولا.
_ أنت معي أم عليّ؟
_ مع الحق ومصلحة أنس، اهدء يا ريان.
وقف ريان عند الباب ونظر لأنس وحفصة وهما يضحكان، ثم ترجل إليهما..
_ سأسمح لكِ بالبقاء معنا.
تحدثت حفصة بسخرية..
_ لا أعلم كيف أفي جميلك هذا؟ لا لا أرجوك لا تطردني خارج البيت فأنا لن أستطيع التنفس خارجه.
_ انظر يا حمزة كيف تتحدث معي.
_ لولا حمزة وأنس لفعلت شيئا غير محمود عقباه.
_ تهديد واضح.
_ حاول ألا تحتك بي فأنا غير ممسكة بدنياكم هذه ويمكنني فعل أي شيء.
مر اليوم وكانا كلما التقت أعينهما نظرا لبعضهما بغضب وكأن كل واحد منهما أكل ورث الآخر، مرت الأيام دون حدوث شيء جديد سوى أن ريان بدأ يستلطف حفصة ويعجب بأسلوبها في معاملة أنس، وأن زوجة أبيها جعلت تدور على كل أسرة في العمارة تخبرهم أن حفصة مطلقة وترفض الزواج من ابن شقيقتها وأنها تفعل شيء محرم وتمشي مع رجل في الحرام، ولا شك أن الأنام صدقوا كلامها فهم يعشقون السير وراء الفضائح الكاذبة، وتحملت حفصة وحدها تلك المضايقات كانت تسمع وتبكي وتدعوا الله أن يفرجها من عنده فهو العزيز المقتدر على فعل أي شيء لعبد وثق به.
وفي يوم كان ريان وحفصة يتحدثان عن أمور الحياة وأنس نائم وفجأة يسمعان صوت بكاء يكاد يُسمع الأصم فهرولا إلى أنس واحتضنته حفصة..
_ اهدأ يا صديقي، هو مجرد كابوس مزعج وسيذهب لحال سبيله، استعذ بالله من الشيطان الرجيم واتفل على يسارك ثلاثا.
كان ريان يقف على الباب والحزن يعتلي وجهه، وبدأ أنس بالهدوء والعودة للنوم مرة ثانية، فخرج ريان وخرجت حفصة وراءه بكل هدوء، لكن الغريب أنها لم تجده، بدأت الخوف يتسرب لفؤادها..
_ ريان، أين أنت؟
وجدت باب غرفة مفتوح ويملأه نور غريب لا يمكن أن يكون بفعل الكهرباء، فوقفت عند الباب..
_ ريان، لقد طال مكوثك هنا، والرئيس يريدك، لا بد أن ترجع.
كان هذا الصوت صادرا من رجل يبدوا أنه صديقه ولكن الغريب أن ذاك النور كان يحاوطه..
_ لا يمكنني العودة الآن، لا يمكنني تركه وأنا السبب.
_ هي حياتك، ولكن بصفتي صديقك لا بد أن أذكرك أنه بقي شهر واحد وتنتهي فرصة العفو عنك و...
رأى صديقه حفصة وهي تقف عند الباب مصدومة وعيناها تتحرك في محجريهما بجنون؛ فأحاطه هالة من النور واختفى، فهرولت حفصة إلى ريان وتحدثت بخوف وهي تلتقط أنفاسها بصعوبة وصدرها يعلو ويهبط بسرعة دون توقف..
_ ريان، من هذا؟ وأين ذهب؟
حاول ريان أن يملأ صدره بالهواء ليُظهر الطمأنينة على وجهه فتُنقل إليها بالتبعية، فالإنسان يستمد شعوره بالطمأنينة بمن حوله..
_ لا يوجد أحد هنا، هدئي من روعك قليلا.
_ لا يا ريان، لقد رأيته، من هذا ؟ وإلى أين يريدك أن تعود؟
نظر ريان إلى عينيها بثبات وابتسم، ممت أشعرها بتوتر..
_ لكني والله متيم يا حفصة.
نظرت حفصة حولها وكأنها كانت مغيبة وعادت إلى وعيها..
_ ماذا يحدث؟
_ لا شيء، من المفترض أن أسأل أنا ماذا حدث مع أنس؟
_ من الواضح أنني جئت إلى هنا لأطمئمك عليه، لا عليك، لا تقلق، ابنك سيكون بخير.
_ لست قلقا فلقد اختار صديقي طبيبة بارعة في التعامل مع الأطفال، وللتوضيح هو ليس ابني.
نزلت الكلمات عليها كالصاعقة وظنت أنه يمازحها..
_ كيف؟ أقصد.. لا أعلم ماذا أقول.
_ هدئي من روعك، هو ابن شقيقتي ولكنها ماتت في حادث أمام عينيه لذلك هو متأثر بها، واعتبرني والده لأنني من كنت أهتم بأمره دائما.
صمت ثم نظر للسماء وأتبع..
_ كنت أشعر بالغربة بين العالم أجمع، وعندنا أرى أنس وأتحدث معه أنسى مرارة ما حدث رغم أنه لا يبادلني الحديث، لذلك أحب المكوث في البيت جل وقتي.
ابتسمت حفصة ولكن في عينيها الحزن فسألها ريان..
_ ما الذي يضحك ويحزن في كلامي؟
_ أحيانا أشعر أنني قد أحسد شخصا على وجود بيت يضمه، أتعلم شعور أنك تعيش مع أعدائك وقتلة أمك في بيت واحد، ولا يقف الأمر إلى هذا الحد بل يجعلونك تفعل ما يريدونه عنوة فأنت مغلوب على كل شيء، لولا وجود أبي لما عدت للبيت مطلقا.
_ أعتذر عن التطفل، ولكن لمَا قلتِ قتلة أمك؟
_ لأني واثقة أن زوجة أبي هي من قتلتها.
_ لا أفهم.
شرحت له حفصة مقدار كره زوجة عمها سابقا لأمها وأن هدفها في هذه الدنيا هي التخلص على أمها والزواج من أبيها وقد كان، وأن أمها لم تعاني من أي أعراض قد تسوقها للذبحة الصدرية.


_ ابتعد عن وجهي.
_ من أين لكِ هذه الثقة التي تتحدثين بها؟ أتأمريني في بيتي؟
_ الكعكة ستحترق يا أبله.
ضرب ريان كفه في الحائط ووجه الحديث إلى صديقه..
_ أخرجها من منزلي، لا أريد رؤيتها ثانية.
_ لست ميتة على البقاء هنا، ونمتلك نفس الإرادة.
أخذت حفصة الكعكة وراحت تصنع خليط شوكولاتة جديد ثم خرجت وجلست هي وأنس على طاولة الطعام، وضعت الكعكة في طبق لأنس وهي غاضبة ثم صمتت ولم تأكل، فأمسك حمزة كفها ولمعت عيناه كأنه يترجاها ألا ترحل، ربتت حفصة على كتفه..
_ لن أتركك، لا تقلق، أنت صديقي الوحيد في هذا العالم بعد أن تخلى أبي عن هذا الدور.

_ راتيل سعد.


هدوء العواصف
الفصل الرابع

ذهبت حفصة معه، جلست هي والطفل في الكرسي الخلفي في السيارة، وهما في الطريق حاولت أن تفك الحاجز الذي بينهما فسألته عن اسمه فلم يجيب، كررت السؤال ولم يجيب، ولكنه كان هادئا وقلما يحدث هذا..
_ أتعلم أن لكل شخص اسم خاص به لكي نستطيع التواصل مع بعضنا البعض، أنا اسمي حفصة ومتحمسة لمعرفة اسمك.
كان ينظر إليها دون أي استجابة..
_ حسنا، ما رأيك أن نلعب لعبة معرفة اسمك، سأخمن بعض الأشياء وأنت تهز رأسك بلا ونعم، وإن استطعت أن تجعلني أعرف اسمك سأصنع لك الكعكة بالشوكولاتة.
وأخيرا هز رأسه بالموافقة وهو يبتسم.
_ أخبرني إذن، هل اسمك قديم أم حديث أم هو إسلامي؟
رفع الطفل ثلاث أصابع وهو فرح..
_ ما شاء الله، حسنا هل هو اسم صحابي أم مذكور في القران والحديث؟
رفع الطفل إصبعا واحدا..
_ حسنا، أكان ملازما للرسول؟
أومأ الطفل بنعم وأشار بإصباعيه السبابة والوسطى دلالة على ملازمة الصحابي للنبي صلى الله عليه وسلم..
_ أخبرني أولا، هل تعرف كل المعلومات عن هذا الصحابي؟ أم أنك تسرح بعقلي؟
رفع اصبعا وابتسم..
_ حسنا لنكمل، هل روى أحاديثا كثيرة عن خير البرية؟
أومأ الطفل بنعم وقد وصل لقمة حماسه..
_ هل كان خادما للرسول ودعا له الرسول بالبركة في العمر أم كان يمتلك هرة؟
فرح الطفل أنها اقتربت على معرفة اسمه، ورفع إصبعا.
_ ما أجمل أن تعرف كل المعلومات عن صحابي وأنت بهذا العمر يا أنس.
فرح أنس وراح يرقص في مكانه أنه نجح في جعلها تخمن اسمه..
_ حسنا، عندما نصل سأصنع لك ما وعدتك به، ولكن أخبرني من الذي أخبرك بهذه المعلومات عن الصحابي أنس بن مالك؟
جلس الطفل مكانه وبدأ الحزن بالظهور على وجهه..
_ أمك أليس كذلك؟

هز رأسه بحزن بالغ، فأتبعت حفصة وقد هربت من عينيها دمعة..
_ أتعلم شيئا، لقد فقدت أمي أنا أيضا، فأنا أشعر بك كثيرا، أحيانا لا نحتاج لطبيب ماهر يمتلك من اللسان بلاغته؛ بقدر حاجتنا لمن مرّ بمثل حالتنا، فهو لن يقول ستنسى لأنه لم ينسى، بل سنهون على بعضنا مصاعب الدنيا.
قام الطفل واحتضنها وبكى، وقاطعهم صوت حمزة..
_ البقاء لله يا حفصة، رزقك الله الصبر والسلوان.
_ ونعم بالله، آمين.
ثم وجهت حديثها مرة أخرى لأنس..
_ هل تقبلني صديقة، وأعدك أنني سأقوم بهذا الدور على أكمل وجه.
هز رأسه بحماس وصافحها، ودار الحديث بينها وبين حمزة تارة، وتتحدث مع أنس وهو يبتسم تارة أخرى، حتى وصلوا إلى منزلهم، كان منزلا مكونا من طابقين وله حديقة كبيرة وكل شيء في مكانه وكأن فنانا قام برسمه، أو الأحرى أنه لا ينتمي لكوكب الأرض فلا يوجد ذرة تراب تعلوا أثاثه، فور دخولها همت بأن تفي بوعدها وتصنع الكعكة لأنس فدخلت إلى المطبخ وكان أنس يلاحقها خطوة بخطوة..
_ حسنا يا أنس، أنا لا أعرف شيئا في مطبخكم هذا لتشردني.
صكت وجهها وهي تمثل الحزن..
_ ألم تجدوا مطبخا أوسع من ذلك يا أنس؟
ضحك أنس حتى ظهرت غمازتيه..
_ سأخبرك بالمكونات وأنت أحضرها لي.
وبالفعل أخبرته بكل ما تريده وأحضره إليها وهو يضحك، وبعدما وضعا الكعكة في الفرن أمسكها أنس من يديها لتذهب معه حيث يريد، وعند مرورهما من الصالة وجدا حمزة نائم على الأريكة فأشفقا عليه وهرول أنس ليحضر غطاء له، ثم ذهبا لوجهتهما، ووقفا أمام باب غرفة مكتوب عليها " مملكة أنس الخاصة "..
_ هل ستجعلني جزءا منها؟
أومأ رأسه بنعم ففرحت حفصة ولمعت عيناها، عندما دخلت وجدت رسومات تغطي كل مكان في الغرفة ومكتبة صغيرة في الزاوية مليئة بالكتب العلمية وليس كتب أطفال..
_ تقرأ وترسم وأنت بهذا العمر؟ تبارك الله، ولكن هذه الكتب لا تناسب طفل في الثامنة من عمره، من الواضح أنك سابق لعمرك يا أنس.
وبعد مرور وقت في مملكة أنس الخاصة هرولت حفصة لتطفئ الفرن على الكعكة وأنس يجري خلفها ويضحك وامتلأ البيت بصوت ضحكاته، وقفت حفصة عند باب المطبخ والصدمة تعتلي وجهها من هول ما رأت..
_ سامح الله من ربط الحمار وتركك، ما هذا الحمق؟
نظر إليها شاب والغضب يسيطر على ملامحه..
_ تتحدثين معي؟
_ ومن غيرك يا وقح؟
_ من أنتِ لتتحدثي معي هكذا؟ وكيف تتحدثين بتلك الوقاحة والثقة؟
_ لولا أنني أحترم ذاتي لفعلت شيئا نندم عليه كلانا.
استيقظ حمزة على صوتهما فهرول إلى المطبخ..
_ اهدءا ماذا بكما؟ لما هذا الضجيج؟
_ انظر إلى هذا الأحمق يا حمزة، لقد أكل خلطة الشوكولاتة التي من المفترض أن أضعها على الكعكة، ومن وقاحته يغضب عليّ.
_ من هذه يا حمزة؟ وكيف دخلت إلى هنا؟
_ لتهدءا حتى أستطيع أن أرد على كلاكما.
ملأ صدره بالهواء ثم أتبع..
_ هذا ريان والد أنس وصاحب البيت، وهذه حفصة الطبيبة النفسية لأنس.
وقفت حفصة أمام ريان والشر يتطاير من عينيها..


القوة ليست دائماً في ما نقول ونفعل، أحياناً في ما نصمت عنه، في ما نتركه بإرادتنا، وفي ما نتجاهله

‏ - نيلسون مانديلا


" إِنّي رَجَوْتُكَ أَن تُقِيلَ عِثاري! "




خرجت حفصة ولكن توقفت في منتصف الصالة حيث يجلس والدها، زوجة أبيها وأبنائها..
_ لن أدخل جحر الثعابين بنفسي يا أبي.
ثم نظرت إلى زوجة أبيها ووضعت سبابتها في منتصف النظارة وقرّبتها من عينيها..
_ معذرة يا زوجة أبي إن جرحت مشاعرك..
صمتت ثم ضربت جبينها بخفة ثم أتبعت..
_ نسيت أن الثعابين لا تشعر، معذرة مرة أخرى.
وكعادتها ذهبت للنوم واندثرت تحت الغطاء، ولا ننسى ذكر موشوحة النكد التي واجهها الأب من زوجته؛ وهو صامت ويُهون على هذه مرة وعلى تلك مرات.
أشرقت شمس الدنيا على رؤوس الأنام لكن سماء قلوبهم مغيمة،
خرجت حفصة منذ الصباح للبحث عن عمل حتى لا تجلس مع زوجة أبيها في البيت، ومن حسن حظها أنها وجدت عملا في مستشفى حيث تعمل دكتورة نفسية للأطفال.
في بداية الأمر شعرت حفصة ببعض الخوف والتردد لهذه الخطوة التي أقدمت عليها؛ لكنها استعانت بالله وصبرت.
دخل طفل إلى المستشفى ممسكا بقبضة رجل، وقد ملأ هذا الطفل المكان صخبا كالوطواط إن اقتحم أحد عليه كهفه، راح يركض هنا وهناك ويريد الخروج من المستشفى بأي ثمن، لكن الرجل الذي كان معه ذهب للاستقبال وسأل على طبيب نفسي لاستلام حالة هذا الطفل الميؤوس منها، فأخبروه أن هناك طبيبة نفسية أول يوم عمل لها فإن كان يريد طبيبا ماهرا عليه المجيء في يوم آخر، فأخبرها أنه لا يهمه ذلك وسأل على حجرتها واتجه إليها، خبط على الباب ثلاثا حتى أذنت له بالدخول..
_ السلام عليكم.
ابتسمت حفصة وقامت من مكانها بحماس لتُرحب به..
_ وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، غير معقول!
نظر إليها الشاب وهو يحاول تذكر شيء، ثم أتبع وهو يبتسم ببلاهة..
_ حفصة؟ ما هذه الصدف الجميلة؟ كيف حالك وأحوالك ودينك ودنياك؟ بخير أليس كذلك؟
_ نحمد الله على كل شيء يا حمزة.
ثم أشارت للطفل..
_ أهذا ابنك؟
_ لا ابن صديق لي، ولكنه عاقبني اليوم أن أبحث له عن طبيب نفسي.
_ أجر وعافية، ماذا به؟
_ لا يتحدث منذ وفاة أمه، كل شيء يريده يعبر عنه بالصراخ وكسر الأشياء المحيطة به، حتى أنه لا يحب المستشفيات، وقدمت اليوم لطلب طبيب يعيش معه في البيت، وحمدا لله أنني وجدتك فلن أثق بغيرك.
_ لقد استلمت وظيفتي للتو، أتريدني أستقيل؟
_ إن جئت للحق، نعم أريد ذلك، لن تحتاجين للوظيفة أعدك بذلك، ستجلسين معه طوال اليوم ولتأخذي ما شئت من الأموال، ستجدين الراحة معه واثق بذلك.
_ وماذا إن رفضت؟
_ أرجوكِ، لا، لست مستعدا لأخذ عطلة مرة أخرى للبحث عن طبيبة.
صمت قليلا ثم أتبع..
_ لدي اقتراح، ما رأيك أن تُجربي اليوم فقط إن ناسبك الوضع استمري.
_ حسنا، سأجرب.

_ راتيل سعد.


_ سبق وأن قلت تجردي من ثوب التمثيل وإلا سأفضح أمرك.
ضحكت الأخرى وأتبعت بثعبانية...
_ الكفن أيضا أبيض اللون يا عزيزتي، لنرى أيّا منها سترتديه أولا.
نظرت إليها حفصة بازدراء ثم رحلت...
هبطت السلم لتسمع كلمات القيل والقال التي تنهش في لحمها، فواحدة تواسي وأخرى تمصمص شفتيها وتدعوا لها بالإعانة على ما حلّ بها، أعرضت عن الجميع وترجلت للمسجد؛ فهو المكان الآمن الوحيد التي توقن أنه لن يتغير ولن يسكنه الثعابين.
جاء وقت المقرأة الجماعية وكانت حفصة شاردة تُحرك شفتيها ولكنها لم تتمعن في معاني الكلمات الخارجة من فمها.
جاء دورها ودخلت لتقرأ ما تيسر من سورة البقرة ومن ثم وصلت إلى ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفسًا إِلّا وُسعَها لَها ما كَسَبَت وَعَلَيها مَا اكتَسَبَت رَبَّنا لا تُؤاخِذنا إِن نَسينا أَو أَخطَأنا رَبَّنا وَلا تَحمِل عَلَينا إِصرًا كَما حَمَلتَهُ عَلَى الَّذينَ مِن قَبلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعفُ عَنّا وَاغفِر لَنا وَارحَمنا أَنتَ مَولانا فَانصُرنا عَلَى القَومِ الكافِرينَ﴾
قامت المعلمة وأمسكت كف حفصة ووقفت في منتصف المسجد..
_ آمين آمين، أتمت حفصة اليوم حفظ القرآن الكريم كاملا، لنسأل الله لها جميعا أن يذكرها منه ما نسيت ويعلمها منه ما جهلت ويرزقها تلاوته آناء الليل وأطراف النهار، وأن تُلبس والديها تاج الكرامة يوم القيامة، بعد وفاة والدتها عاهدت حفصة نفسها أن تختم القرآن في أسرع وقت حتى تشفع لأمها وتُلبسها التاج، لأجل هذا فليتنافس المتنافسون، لندعوا جميعا لوالدة حفصة بالرحمة والمغفرة ولحفصة بالثبات والهداية.

قامت جميع الفتيات بالتأمين والمباركات لحفصة، نكاد نقسم جميعا أنه لا يوجد أجمل من تلك المباركات على شيء قدّمك خطوة لرب العزة، هي لحظة تُمزج فيها المشاعر، فلا تسأل لمَا الدموع والضحك معا، فوالله لم يُصاب صاحبها بالجنون ولكنه الآن فقط يعود إلى رشده، فما أجمل السير في طريق الله.
مر الوقت ولكن بسرعة البرق؛ وكأن عقارب الساعة غيّرت اسمها، عجيب أنه عندما تنتظر شيئا بفارغ صبرك وتتحمس لحدوثه تقوم عقارب الساعة بدورها على أكمل وجه وهي تُقلد السلحفاة، وعندما تكره حدوث شيء فوالله لا يأتي أسرع منه، أعتقد لذلك سُميت عقارب فهي لا تفعل ما نريده مهما كلفها الأمر.
كل فتاة عندما يتقدم لخطبتها أحد تسعد وتستعد منذ معرفتها بالأمر، ولكن حفصة كانت حزينة وتعابير الضيق تعتلي ملامحها، حلّ الليل وكانت لم تستعد بعد لمقابلة ذاك الأحمق، رن جرس الباب وهمت أن تفتح وهي ترتدي ملابس الصلاة فأبصرتها زوجة أبيها ونهرتها لكنها لم تهتم..
_ هل ستفتحين بتلك الملابس؟
أخفضت حفصة جفنيها وتحدثت بتضجر..
_ وهل يهمّك الأمر؟
عقدت زوجة أبيها يديها وابتسمت بشرّ..
_ ومن سيهتم لخروجك من البيت سواي؟
همّت حفصة أن تجيب ولكن جاء والدها..
_ لما هذا الوقوف؟ وما هذه الملابس يا حفصة؟
_ وما بها ملابسي يا أبي؟ إنها ملابس الصلاة.
_ لكل مقام مقال يا عزيزتي وكذلك لكل مناسبة ثوبها الخاص.
قاطعتهم زوجة الأب وقد رسمت على وجهها البراءة..
_ هذا ما كنت أود إعلامها به.
نظرت إليها حفصة بازدراء ثم اتجهت إلى غرفتها، وفتح والدها الباب للضيوف.
ارتدت حفصة اعتق ملابس عندها؛ لكنه العتيق في الأسوء وليس العتيق في القيمة، خرجت وهي تجرّ قدميها بكسل ثم دخلت غرفة المعيشة وهي تغض طرفها ليس استحياء فقط بل تجنبا لأي نظرة كره تخرج من عينيها..
_ السلام عليكم.
ردوا السلام واستأذنوا جميعا حتى يتركوا لهما المساحة للحديث..
_ كيف حالك يا حفصة؟
نظرت حفصة لمصدر الصوت وابتسمت بشفقة على غبائه..
_ حقا؟ وتظن أنني سأقبل الزواج بك؟
_ وما هو الشيء الذي يعوق ذلك؟
_ أن زوجة أبي تكون خالتك، بيت الأفاعي لا يخرج منه سوى السم.
_ وما هو ذنبي في كونها خالتي؟ أنا لم أختر أقاربي يا حفصة.
_ ما يعجبني في عائلتكم أنكم تجيدون التمثيل جيدا.
ابتسم بثعبانية ثم أردف..
_ وما يعجبني فيكِ أنكِ ذكية وتستطيعين تمييز المزيف من غيره.
صمت قليلا ثم أتبع على غرار ما سبق بعدما كُشف أمره..
_ ولكن عواقب رفضي لن تستطيعِ التصدي لها.
_ أأعتبر هذا تهديدا واضحا؟
_ لا، سامح الله، أقصد أنكِ لن تستطيعي تحمل كلمات القيل والقال والنظارات التي تأكل في لحمك وأنتِ حية، لأنه وكما نعلم جميعا أنتِ مطلقة ولا أحد يتقدم لمطلقة، والذي نعلمه أيضا أن المطلقة أي رجل يتقدم لخطبتها توافق دون تردد حتى ينقذها من سماع كلمات تؤذيها، فماذا عنكِ؟
_ هي مشكلتي وأنا من سأتحمل عواقبها؛ فلمَا تأخذ من وقتك لتفكر في أحداث حياتي، من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، المعذرة سأخرج.


هدوء العواصف.
الفصل الثالث.

ابتسمت حفصة وسكت والدها دقائق ثم تحدث بتردد..
_ حفصة، فعلت لكِ ما أردتيه هل يمكن أن تفعلي لي شيئا أريده؟
_ بالطبع يا أبي.
_ سأعقد قراني على زوجة عمك الليلة.
نظرت إليه حفصة وكأنها تنتظر أن يخبرها بأنها مزحة لطيفة؛ لكنه صمت وبدى كلامه صدقا وملامحه جامدة لا تدل على مزاح أبدا.
_ أنت تخبرني فقط، أنت لا تنتظر مني الرفض أو القبول أليس كذلك؟
تحدث والدها وبدى وكأنه مغلوب على أمره..
_ عماتك هن من طلبن مني ذلك، لأنك تعلمين أن عمك ميت منذ أعوام عديدة، وهي معها أولاد ولا تستطيع إعالتهم بمفردها.
ردت عليه حفصة باستغراب وحزن شديدين..
_ فتتزوجك أنت، وما المطلوب مني الآن؟
_ أريدكِ أن تعامليها بلطف، وتأتي معي الليلة.
_ سأحاول جاهدة ألا أتعامل معها، وسامحني لن أستطيع المجيء معك.
_ لماذا يا حفصة؟
_ وما زلت تسأل عن السبب؟ سامحني، يمكنك أن تذهب وأنا سأزور قبر أمي.

تم عقد القران وانتقلت زوجة عمها للسكنة معهم، وعندما دخلت وجدت حفصة تجلس في صالة البيت، همت أن تحتضنها ولكن أوقفتها حفصة وابتعدت عنها..
_ لن تأخذي مكان أمي مهما حاولتِ.
ثم أخفضت صوتها وتحدثت بهمس..
_ ولا تحاولي التلوين كالحرباء وإلا سأخبر أبي بكل شيء، لا أحب النفاق يا زوجة أبي.
صمتت حفصة ثم ترجلت خطوات نحو أبيها..
_ مبارك يا أبي، وسامحك الله على ما ابتليتني به.
ترجلت خطوات ثم وقفت مكانها وتحدثت بحزن بالغ..
_ اتصل يونس وطلقني وأخبرني بأنه بدأ في إجراءات الطلاق، إن اتصل بك أخبره بأنني عفوت عن الصداق.
في هذه اللحظات مهما كانت المرأة قوية فإن قلبها يتفتت لمَا وصلت إليه، همّ والدها أن يختضنها لكنها ابتعدت بعض الخطوات عنه..
_ إنها ليلتك الأولى في زواجك الجديد، لا أريد أن أخرب عليكما.
دخلت حفصة غرفتها وانفجرت من البكاء وكانت تهون على نفسها بأنه وإن كثُرت العواصف فلا بد من هدوءٍ يُرممُ مُرَّ ما أصابنا.
وبعد يومين دخلت زوجة أبيها الغرفة وهي تتحدث بتهَكّم..
ومتى سَتَلِدُ الأميرة؟ لا أعلم إلى متى سأتحمل وجودك اللعين في هذا البيت، ليت زواجك اكتمل لأتخلص منك، لأنه لم يبقى في طريقي سواكِ يعوق كل مخططاتي.
استيقظت حفصة وقد زفرت بقوة لتحافظ على هدوئها..
_ صباح الخير يا زوجة أبي..
ثم تمتمت بصوت مسموع..
_ رغم أن الصباح الذي يبدأ بكِ لا يزوره الخير مطلقا، ما الأمر الذي ساق بكِ إلى غرفتي؟
رفعت حاجبها لتكمل الحديث على غرار ما سبق..
_ لقد غفوتِ دهرا.
مسحت حفصة عينيها ثم ارتدت نظارتها ورفعت حاجبيها ليلتصقا ببعض وابتسمت لتجيب ببرود شديد..
_ سريري لم يشتكِ بعد.
اعتلت العصبية وجهها لتضغط على أسنانها قائلة..
_ إن والدك يريد التحدث معكِ، لتنهضي من على البيض قليلا.
_ إن انتهيت من تبليغ رسالتك يمكنكِ الخروج.
نظرت إليها وقد ازدادت عصبيتها وبعد خروجها بكت حفصة كعادتها وكأن دموعها أصبحت حرة، ولا شيء تفعله في يومها سوى البكاء والنوم، فبسملت وحوقلت ثم قامت لتتوضأ لعَلّها تهدأ، وارتدت ثيابها واتجهت إلى غرفة المعيشة حيث يجلس والدها ألقت عليه تحية الإسلام ثم انحنت لتقبل كفه..
تحدث معها بحنان بالغ وابتسامة لم تغب عن وجهه ثانية...
_ هل أنتِ بخير الآن؟
أجابت بابتسامة مماثلة..
_ لن يزورني إلا الخير دُمت معي يا أبي.
نظر والدها إلى الأرض والخجل يعلوا وجهه، ليس إثر كلامها بل استعدادا لما يود قوله..
_ أحدهم تقدم لخطبتك.
مطّت حفصة شفتيها مستغربة...
_ ومن ذا الوقح الذي يتقدم لخطبة فتاة لم يمر على طلاقها يومين؟
أعاد الأب نظره إليها مرة ثانية..
ما أريدكِ أن تفهميه أن الحياة لا تقف على أحد يا حفصة.
انفعلت حفصة قليلا ليعتلي صوتها وهو نادرا ما يحدث منذ فترة...
_ الحياة لا تقف على أحد؛ لكنها تقف احتراما لحزننا، تقف لأجلنا لكي ننهض ونسير في دروبها الغامضة ثانية.
نظر إليها والدها؛ فانتبهت لصوتها ثم أردفت بتلعثم..
_ آسفة يا أبي، حسنا.. م.. من الذي طلبني للزواج؟
_ ستعرفين الليلة ولكن..
ثم نهض من مكانه فقامت هي الأخرى احتراما له، ترجل حتى وقف أمامها..
_ كل الفتيات يسعدن فور تقدم رجل لخطبتهن، إلاكِ يا حفصة، لماذا أرى التردد والغضب هو تعبيرك الأول فور سماعكِ ذاك الخبر؟
_ لأنني لم أُخلق من ضِلع جميع الرجال، لا أريد رجلا تسعد درجات السُلّم لأنه يصعد لخطبتي، ولا أريد أن يحتضن خاتمه قلبي قبل بُنصري، لأن كل هذا سيحدث بالفعل إن سعد ضلعي بمجاورة ضلعه؛ حينها ستلتحم ضلوعنا يا أبي...
قاطع حديثها دخول زوجة أبيها وهي تتحدث بحنان يكسوه التمثيل والقسوة..
_ لكننا نطوق لرؤيتك في الأبيض يا حبيبتي.
ابتسم الأب ثم خرج من الغرفة؛ وآمالت حفصة برأسها نحو زوجة أبيها..


تحبوا ننزل فصل من الرواية
Опрос
  •   يومين في الأسبوع
  •   ٣ أيام في الأسبوع
  •   يوم واحد بس
18 голосов


إن اجتمعت علينا هموم العالم نجد دائما الأم هي الحضن الدافئ الذي يُصبّرك على مرارة الدنيا، تُنصت إليك كلل أو ملل، فماذا لو أن العالم حرَمك منها؟

وفي عام حزنهم شعروا وكأن الأعوام كلها مرت فيه، أصبحت الحياة بلا معنى والقلب دون نبض، أصبح كل شيء باهتا، لم يحدث شيء يستحق ذكره سوا الكثير من الحزن ولا بأس ببكاء إن زار وأقام.
وفي يوم رن جرس الباب فقامت حفصة بثقل شديد لتفتح..
_ السلام عليكم، اشتقت إليك كثيرا يا حفصة.
تجمدت ملامح حفصة وتحدثت بصوت خافت ولكن يكسوه الغصب..
_ ما الذي أتى بك إلى هنا؟
_ رد السلام فرض عين على المنفرد يا حفصة.
لم تتغير ملامحها ولا نبرة صوتها بقيا كما هما..
_ وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، ما الذي أتى بك إلى هنا؟
_ ألن تقولي لي تفضل؟
_ لا نريد فضلك ولا أن نتفضل عليكَ.
_ حفصة، أنا زوجك إن كنت نسيتِ ذلك.
_ حقا؟ يا لها من معلومة كنت جاهلة بها.
_ هل سنتحدث كثيرا على الباب؟
قاطع حديثهم صوت والدها وهو يقف في منتصف البيت..
_ من على الباب بُنيتي؟

قام زوجها بفتح الباب حتى يراه والدها..
_ هذا أنا عمي خالد.
_ تفضل يا يونس، لماذا تقف على الباب؟
_ ولماذا يدخل يا أبي؟
_ حفصة، هو في بيتنا، يجب أن يُعامل أفضل معاملة، ولا تنسي أنه زوجك.
_ هو من نسي ذلك أولا.
_ ادخل يا يونس، وأنتِ يا حفصة حضري بعض الطعام.
نظرت إلى يونس بغضب ثم رحلت، ورحّب السيد خالد بزوج ابنته وراح يسأله عن حاله وأحواله وكيف كانت الدنيا معه في الآونة الأخيرة، وراح يعتذر على تقصيرة معه وهنا جاءت حفصة وتدخلت في الحديث..
_ لماذا تعتذر يا أبي؟ ولمن؟
رد عليها والدها بابتسامة..
_ لزوجك يونس.
_ أرجوك يا أبي، لا تكن بهذه الطيبة، وأنت قل لماذا جئت إلى هنا وارحل.
_ جئت لنحدد موعد الزفاف.
أصابت حفصة هستيرية ضحك لدرجة أن الدموع سالت من عينيها من شدة الضحك استهزاء بكلامه..
_ أتعلم شيء؟ اليوم العاشر من نوفمبر وهو ذكرى وفاة أمي، وهو ذلك اليوم الذي كنت ستحدد فيه موعد الزفاف وعندما علمت بموتها قررت السفر وتأجيل كل شيء، أذكر أنك لم تقف معنا ولا ألزمت نفسك بالتهوين عليّ، فقدت أمي وماذا عساك أن تفعل؟ بدلا من مواساتي قررت الرحيل لِتركي أهدأ، وجئت بعد عام كامل لنحدد موعد الزفاف، كان معك حق أن تتركني أهدأ؛ فلقد هدأت بالفعل ورتبت اوليات حياتي والغريب أنك لم تشغل المرتبة الأخيرة حتى في حياتي.
كانا يسمعانها بإنصات ومن ثَم أمرها والدها بأن تجلس جواره..
ابتلع يونس لعابه بصعوبة بالغة ثم قال..
_ أنا لن أرد على تلك الاتهامات لأن والدك يجلس.
_ جُزيت خيرا يا بني.
_ حسنا يا عمي، هل سنحدد موعد الزفاف؟
_ بالطبع.
تحدثت حفصة بصدمة..
_ ولكن يا أبي...
أمسك والدها كفها وشرع في تكميل حديثه..
_ أخبرني يا يونس هل الأسبوع يكفي لأن تكون جاهزا؟
_ بالطبع يا عمي.
_ حسنا، الأسبوع القادم إن لم تكن ورقة طلاق حفصة بين يدي سأضطر للجوء إلى المحاكم، انتظرت قدومك عام بأكمله.
_ تمازحني أليس كذلك؟
_ أنا في عمر والدك ولن أفعل ذلك في تلك المواضيع، ولا تنسى أنه لا يوجد في الطلاق مزاح.
_ هل يمكنني أن أعرف السبب؟
_ من حقي كأب أن أختار الزوج المناسب لابنتي، التي أطمئن عليها معه إن وافتني المنية، أريد لها شخصا يقف بجانبها إن بكت لأن إبهامها جُرح؛ لكنك رحلت حين وفاة أمها كيف آمنك عليها؟ معك أسبوع كامل.
وقف يونس وهمّ بالرحيل فوقف الأب هو الآخر..
_ لم تأكل معنا.
_ ولا داعي للجلوس، السلام عليكم.
ردا عليه السلام وبعد رحيله جلست حفصة جوار أبيها..
_ هل أنتِ حزينة على ما فعلته؟
_ لا يا أبي، لقد فعلت الصواب، شخص لم يقف بجانبي في أشد أوقات حزني كيف أصنع معه السعادة.
_ سيعوضك الله، أنا واثق في ذلك..
ابتسمت حفصة وسكت والدها دقائق ثم تحدث بتردد..
_ حفصة، فعلت لكِ ما أردتيه هل يمكن أن تفعلي لي شيئا أريده؟
_ بالطبع يا أبي.
_ سأعقد قراني على زوجة عمك الليلة.

_ راتيل سعد.


هدوء العواصف

الفصل الثاني

مرت الدقائق وانتهت المقرئة الجماعية وجلست تُراجع ما حفظت حتى أتى دورها، جلست أمام المُعلمة وتلت ما تيسر من سورة يوسف؛ ولكن قاطع تلاوتها صوت رنين الهاتف فطلبت من مُعلمتها أن تُجيب نظرا بأن المتصل والدها، أنهت المكالمة وتعابير الصدمة تعتلي ملامحها فقاطع شرودها صوت المعلمة...
_ حفصة سأراجع لكِ الآية السابقة لتُكملي ﴿قالوا تَاللَّهِ تَفتَأُ تَذكُرُ يوسُفَ حَتّى تَكونَ حَرَضًا أَو تَكونَ مِنَ الهالِكينَ﴾.
هربت الدموية من وجه حفصة واجتمعت الدموع في عينيها ثم قالت..
_ ﴿قالَ إِنَّما أَشكو بَثّي وَحُزني إِلَى اللَّهِ وَأَعلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعلَمونَ﴾
وظلت تكررها كثيرا قبل أن تهوي مغشي عليها، وبعدما استعادت رشدها هرولت إلى المستشفى وبحثت كالمجنونة على رقم الغرفة بعدما سألت الإستقبال، فوجدت أباها واقفا في طرقة بين الغرف، وقفت أمامه وأمسكت بكفيه وكأنها ترجوه أن يصَدّق على كلامها...
_ أمي بخير أليس كذلك يا أبي؟
ضمها والدها بين ضلوعه، ظلت حفصة تبكي وفي لحظة سقط نظرها على شيء جعل الدماء تفور في رأسها..
_ ما الذي أتى بهذه المرأة إلى هنا؟ اغربي عن وجهي وإلا ارتكبت فيكِ جريمة قتل.
أمسكها والدها وأحكم قبضته ....
_ حبيبتي، لولا زوجة عمك لما علمنا بموت أمك.
_ أمي لم تمت، أمي بخير يا أبي هي فقط تتدلل لترى كم نحمل لها من الحب...
سكتت وكأن عقلها بدأ يعمل...
_ أنتِ من قتلتيها أليس كذلك؟ أنت تكرهين أمي منذ زمن وتمنيت أكثر من مرة أن ترحل عن الدنيا، بل وكنت تزيدين من الدعاء عليها، والجميع يعلم أنكِ ممنوعة من دخول منزلنا؛ فكيف علمتِ أولا بموت أمي؟
بكت زوجة عمها وحاولت ألا تتلعثم حتى لا تؤكد كلامها...
_ من الواضح أن تأثير الصدمة عليكِ أفقدك عقلك، أنا لم أفعل شيئا، وهل هذه شكرا التي يجب أن توجهيها إليّ؟
انفجرت حفصة في وجهها...
_ ولِما أقول لكِ شكرا؟ هل لأنكِ نجحتي أخيرا في مخططاتك وتخلصتي من أمي وظل الطريق للوصول إلى أبي فارغا؟
تدخل والدها ليسيطر على الموقف..
_ حفصة يجب أن تهدأي وتراجعي كلامك؛ لأنه من الواضح أن تأثير الصدمة عليكِ كان كبيرا.
_ سأذهب للطبيب لأسأله عن شيء.
ترجلت حفصة إلى غرفة الطبيب والدموع تسيل من عينيها كالشلال، كانت دقات قلبها تتسارع وكأنه مشترك في مسابقة ركض، وأخيرا وصلت إلى وجهتها..
_ السلام عليكم، أمي بخير أليس ذلك؟ أخبرني أنها بخير أرجوك.
وقف الطبيب والصدمة تعتلي وجهه وبدأت علامات الاستفهام في الظهور..
_ اهدأي، إن شاء الله ستكون بخير؛ ولكن من تكون أمكِ؟
ردت عليه حفصة وقد زادت دموعها وكانت تشهق بين الكلمة والأخرى ..
_ السيدة فاطمة التي قلت أنها ماتت بذبحة صدرية.
فُتح الباب فجأة ونظر الطبيب إلى الشخص الذي يمسك قبضة الباب وبدأ يتلعثم..
_ هي.. نعم.. السيدة فاطم..
_ لماذا تلعثمت هكذا؟
ثم نظرت خلفها فوجدت زوجة عمها تقف على الباب والشر يتطاير من عينيها وتبتسم بسخرية..
_ حسنا، فهمت، خُنت مهنتك واستلمت بعض الرشوة، والآن تأكدت أنكِ من قتلها.
هرولت حفصة إلى أبيها، وقلق الطبيب ولكن زوجة عمها طمأنته أنها لن تفعل شيء ولا داعي للقلق، وقفت حفصة أمام أبيها وصدرها يصعد وينزل بسرعة شديدة إثر الركض..
_ أبي، أمي لم تمت بذبحة صدرية، أقسم لكَ بذلك، أرجوك يجب أن نطلب تشريح جثتها، أرجوك يا أبي.
احتضن والدها وجهها بكفيه ليلتقط الدموع بإبهامه..
_ حبيبتي، يجب أن نؤمن بقضاء الله وقدره فالموت واحد.
_ ولكن اختلفت الأسباب يا أبي.
_ ولمَا النهش في عظامها؟ والأهم أنه تم تغسيل أمك، لنؤمن بقضائه؛ لأنه لا فائدة من فعل ما تطلبيه، لن يُعيدها إلى الحياة.
_ ولكن يا أبي...
_ لنوحد الله ونؤمن بقدره؛ لأنه ليس لدينا سواه.
ارتمت بين ذراعيه وظلت تبكي، وظل والدها صامدا علّه يهون عليها وفجأة انفجرت تلك القوى دموعا في عينيه، وانهدم الصمود المتوغل بداخله وبكى كالأطفال، نظرت إليه حفصة ونشّفت الدموع من على وجنتيه..
_ نحن لله وإليه راجعون يا أبي.
قاطعهم صوت الممرضة وهي تخبرهم بأنه بإمكانهم إلقاء النظرة الأخيرة على السيدة فاطمة، دخلوا إليها وجلس كل منهما على طرف من السرير..
أمسك الزوج وجهها وبكى..
_ عُودي وسأخبرك بأشياء تجعلكِ سعيدة، أعدُكِ بذلك، سأخبرك عن مدى حبي لكِ وامتناني الشديد لوجودكِ دائما دون كلل أو ملل، سأخبركِ أن دفء العالم كله يكمن في ابتسامتك.
أمسكت حفصة كف أمها وأخفضت رأسها لتلامسه..
_ لقد أفقنا من شرودنا يا أمي، استوعبنا أن الحياة تكمن في وجودك، ولكن جاء الاستيعاب متأخرا، نحن نحبكِ يا أمي.
ظلا يبكيان ويقَبّلان جبينها مرة وكفها في مرات أخرى، دخلت الممرضة وأخبرتهم أنه حان وقت الصلاة عليها والدفنة، كان الزوج وصل إلى أعلى درجات الحزن، مر الوقت وتمت مراسم الدفنة وأخذ العزاء.

Показано 20 последних публикаций.

1 394

подписчиков
Статистика канала