يضاف إلى ذلك أن الذكر حينئذ لا يلزم منه الغفلة قبله. خصوصًا وأن للذكر مراتب تتفاوت شدة وضعفًا. كما أنه يمكن على فرض صحة الوصف وكشفه عن حالة أبي الفضل سلام الله عليه، أن يقال بأن العبّاس الذي قد قدم لتوه من عمل عسكري ضخم حيث اخترق الصفوف حتى وصل إلى المشرعة وأزال عنها أربعة آلاف فارس ـ كما نقلوا ـ على رأسهم عمرو بن الحجاج الزبيدي ونزل إلى شاطئ الفرات، وهنا قد يكون الأمر على نحو الحركة اللاشعورية التي تحدث للظامئ والعطشان عندما يرى الماء فإنه يسارع إليه، في رد فعل سريع لرؤيته، ويملأ كفه، لكن مع أدنى توجه إلى تلك الحركة اللاشعورية، يقوم أبو الفضل عليه السلام بسكب الماء مرة أُخرى ويمتنع عن الشرب. ويا بعد ما بين الشطر الأول والشطر الثاني من السؤال، فإن الأول يستكثر على أبي الفضل عليه السلام تلك الحركة اللاشعورية للظامئ بينما يطالبه الشطر الثاني بأن يشرب الماء وأن يلتذ به!! والجواب عليه: أما حكاية المحافظة على النفس، والنجاة من الموت، فلم يعلم أن أبا الفضل عليه السلام كان قد بلغ به العطش مبلغًا يؤدي إلى إنهاء حياته حتى يجب المحافظة عليها بشرب الماء، وذلك أننا رأيناه يقاتل بعد ذلك قتال الأبطال لفترة غير قصيرة، ومن حاله هكذا لم يكن ليهلكه العطش. وأما أنه لماذا لم يشرب حتى يتقوى على قتال الأعداء، فإضافة إلى الجواب السابق، نقول هؤلاء قوم ليس مشروعهم في الحياة البقاء، وإنما مشروعهم تقديم النموذج الإيماني والأخلاقي العالي. حتى تأتي الأجيال (٣) وتقتدي بهم في إيمانها، وصمودها، ودفاعها، وإلا فما قيمة شربة ماء لن تقدم أو تؤخر في الصورة النهائية للمعركة؟ إنما قيمة الامتناع عنها هي التي تؤسس معنى في الإيثار، والأخوة لم يسبق له نظير. إن الموقف الذي يطالب السائل هو الموقف الذي يلتزم به أكثر الناس، في هذه المواقف حيث لا يقدّمون في مضمار سباق القيم، والحاجات الشخصية إلا الثانية. لكن أهل البيت عليهم السلام ومن تأثر بهم يريدون أن يرفعوا الإنسان إلى سماء أُخرى، ذات آفاق أرحب، لا سيما في كيفية العلاقة مع الأئمة والقادة (٤).
_
_