اليوم المنصرم الثالث من شهر رمضان هو يوم رحيل شيخ مذهبنا ورئيس ملّتنا الفقيه المتكلم آية العلم والتقوى محمد بن محمد النعمان المفيد طاب ثراه.
لست أريد الحديث عن منزلته -فالشمس معروفة بالعين والأثر، وإذا استطال الشيء قام بنفسه وصفات ضوء الشمس تذهب باطلًا- فقد بلغ رحمه الله من الفضل والمكانة ما جعل كبار المخالفين يتمنّون موته حتى قال عالمهم الخطيب البغداديّ في تأريخه: «هلك به خلق من الناس إلى أن أراح الله المسلمين منه»، ويعني بهلاك الناس هدايتهم إلى مذهب أهل البيت عليهم السلام!
لكنّ الذي يثيرني فيما ترجم له رضوان الله عليه عبارتان، أولاهما ما نقله ابن حجر عن الخطيب نفسه في لسان الميزان، وهي قوله: «كان كثير التقشّف والتخشّع والإكباب على العلم، تخرّج به جماعة وبرع في المقالة الإمامية حتى كان يقال: له على كل إمام [إماميّ] منّة»، وثانيهما ما نقله الذهبيّ في سير أعلام النبلاء عن الحلبي، قال: «وكان يناظر أهل كل عقيدة مع العظمة في الدولة البويهية، والرتبة الجسيمة عند الخلفاء، وكان قوي النفس، كثير البرّ، عظيم الخشوع، كثير الصلاة والصوم، يلبس الخشن من الثياب، وكان مديمًا للمطالعة والتعليم، ومن أحفظ الناس، قيل: إنّه ما ترك للمخالفين كتابًا إلا وحفظه، وبهذا قدر على حلّ شبه القوم، وكان من أحرص الناس على التعليم، يدور على المكاتب وحوانيت الحاكة، فيتلمّح الصبيّ الفطن، فيستأجره من أبويه [ثم يعلّمه]».
وحكى لنا الشيخ الطوسيّ طاب ثراه فاجعة مصابه، وأنّه أبكى كلّ عدوّ وصديق، فقال في الفهرست: «كان يوم وفاته يومًا لم ير أعظم منه من كثرة الناس للصلاة عليه وكثرة البكاء من المخالف والموافق». وهو ما ظهر في مرثية الديلمي آنذاك فقال:
يا مرسلا إن كنت مبلغ ميت
تحت الصفائح قول حي مرسل
فج الثرى الراوي فقل لمحمد
عن ذي فؤاد بالفجيعة مشعل
من للخصوم اللد بعدك غصة
في الصدر لا تهوى ولا هي تعتلي
من للجدال إذا الشفاه تقلصت
وإذا اللسان بريقه لم يبلل
وتشابه الباكون فيك فلم يبن
دمعُ المُحِقِّ لنا من المتعمِّلِ
وفي رجال النجاشي أنّه: «صلى عليه الشريف المرتضى أبو القاسم علي بن الحسين بميدان الأشنان وضاق على الناس مع كبره ودفن في داره سنين، ونقل إلى مقابر قريش بالقرب من السيد أبي جعفر عليه السلام». فرحمه الله تعالى وحشرنا وإيّاه مع من تولّاه النبيّ وآله عليهم السلام.