«نظريَّة المَلْعَب»
كان سيد قطب رحمه الله أحد الدكاترة الذين تتلْمذ على يديهم والدي في جامعة الإمام في العاصمة الرياض. ومن سمات والدي أنّهُ كان وما زال شخصيّة رائدة بالفطرة، فلَقد كانوا رفاقه يلجأون إليه عند أوّل مشكلة يواجهونها فيُخرجهم منها كما تسل الشعرة من العجين.
وفي أحد الأيام تعرض أحد رفاقه للحرمان من المادة الدراسية التي يدرسها عند سيد قطب بسبب ظروفه، ومن المعلوم في الإطار الأكاديمي أن كثرة الغياب عن المحاضرة ستحرمك من امتحان المادة، فاقترح والدي على رفيقه فكرة بسيطة مفادها زيارة الدكتور في شقّته والتحدث معه بشأن المشكلة، وكانت تلك الفترة آخر فترة تدريس لسيد قطب في المملكة العربية السعودية، وحين ذهبا إليه استضافهما بكل سرور، ثم استفسر عن حاجتهما.
فارتجل والدي قائلاً: "كان بودّي إخبارك أنّي على معرفةٍ شخصيّة برجلٍ يملك مكتبة ضخمة بها من الكتب ما يرضيك يا دكتور، ونحن على أتم الاستعداد لخدمتك إن احتجت أيّ كتاب قبل ذهابك عنّا، ولكن قبل ذلك سأطلب منك طلبًا بسيطًا، نحن على مشارف الامتحانات ونستسمحك أن ترفع علامة الحرمان عن هذا الطالب، ولن ننسى وقفتك معنا.
الجدير بالذكر أنّ الدكتور سرعان ما وافق على إزالة علامة الحرمان وأعجب كثيرًا بأسلوب والدي الذي عرف من أين تؤكل الكتف، لأنّهُ في حضرةِ مَن هو أعلى منه علمًا في تلك اللحظة الزمنيّة، حيث إنّه دخل عليه من مبدأ تبادل المنفعة.
المغزى من هذا الموقف أنّ العارِفَ حين يكون في مَلْعبِ غيره إمّا أن يلعب لُعبته، أو يتنحّى عنه. والمَلْعبُ -هُنـا- إنما هوَ الساحةُ الشخصيّة.
إذا نظرتَ نظرة عَمِيمة إلى الحيـاة فستدرك أنَّ ثمّة ملعبًا لكلِ إنسان يتضمّن بعض القدرات والمزايـا. فمِن الذكاءِ أن تعترِف أن هناك مَنْ هوَ أذكى منك في مجالٍ مُحَدَّد حين تكون في ملعبه [أيْ: ساحته الشخصيّة] وهذا بالطبع لا يلغي حقيقة كونك ذكيًا في مجـالٍ آخر.
وعلى هذا المنوال، الإنسانُ بطبعِه ميّـالٌ للنظر إلى ملعب غيره، وتبخيس قيمة ملعبه، فليتَهُ يُدرك تمام الإدراك أنّ الله وَهَبه ومَـنَّ عليه بقدراتٍ عالية للغاية، لو عرف مواطنها وآمـنَ بها لفجَّر الدُنيـا إبداعًا. لكن مِن الواضح أن معظم الناس يربكهم أن يروا أنفسهم عباقرة رغم تعطّشهم إلى العبقريَّة، فيـَا للمفارقة.
"شعرتُ بمدى عبثيّة حياتي أمام نجاحاتهم، كم بدوتُ عديم النفع."
هل تراودك مثل هذه العبارات في قرارةِ نفسك عندما ترى شخصًا ناجحًا في أحد المجالات؟
لا يوجد إنسان فاشل جَزْمًا، يوجد إنسان لم يحاول مُجدّدًا. بالمقابل، لا يوجد إنسان ناجح على الدوام، يوجد إنسان لم يكلّ من المحاولات. مِن غير المعقول أن نقول عن إنسانٍ ما: "هذا إنسانٌ ناجح" بل الأحرى أن نقول: "هذا إنسانٌ ناجح في هذا المجال" فالأمرُ يقتضي التحديد؛ لأنّنا لو قلنا إنّهُ إنسانٌ ناجح وحسب، فكأنّنا بهذا القول نجزم جزمًا قاطعًا بأنّهُ ناجحٌ في كل شيء، وفي كل مكان وزمان، بالتالي كأنّنا نبرهن على كماليّتِه، وهذا غير معقول.
لا يوجد إنسان كامِل، سترى مَنْ يحظى بجمـال الصوت لكنه يفتقر القدرة على الإلقاء والخطابة، أو مَنْ يحظى بمهارة التعبير وسُيولة القلم لكنه يفتقر إلى مهارة الربط والتحليل المنطقي، أو مَنْ يحظى بجسدٍ مَمْشوق لكنه يفتقر التصرّف بما يليق به. فإذا رأيتَ عند أحدٍ موهبة فذّة قد تنفع الناس، فلتعترِف بمزاياه ولتكرِمه بالتعزيز والمدائـح حتى لو كانت تربطكما مشكلة شخصيّة؛ فأنتَ بتصرُّفٍ كهذا تُعلِي من شأنـك في المقامِ الأول؛ لأنّك احترمتَ غيرك واحترام الغير نابع مِن احترام النفس. وتنصف موهبته التي ستخدم الجميع -بما فيهم أنت- في المقام الثاني.
إنّ العقلَ هوَ الركيزةُ السامية التي تُميّز الإنسان عمّا سواه مِن الكوائن. بالعقلِ نستطيع أن نُفكّر ونتكلّم ونُبدِع ونبتكر، بالعقل نستطيع الاقتراب مِن إنسانيّتنا وتشذيبها مِن رواسب الحسد والكراهية والضغينة، وبغيابِه يمكن للإنسان أن يتحوّل إلى إنسانٍ مُتَشيطِن، فلا يكاد يبتعد عن تصرُّفات الشيطان، بطريقتِهِ في التفكير والمعاملة والعمل، وعليه، فإنَّ قمع نوازع الخير، وغَرْس بُذُور الشرور إنما هيَ دَيْدَن المُتشيْطِن.
نستخلص القول بأنَّ إثبات جدارتك لا يتحقّق بالنظر إلى ملعب الغير، إنما بمواظبة النظر إلى ملعبــك. إنَّ اكتشافَ مواطن العبقريّة في الساحةِ الشخصيّة هوَ الامتياز النـادر في نظريّة المَلْعب.
نورا الشمّري.
كان سيد قطب رحمه الله أحد الدكاترة الذين تتلْمذ على يديهم والدي في جامعة الإمام في العاصمة الرياض. ومن سمات والدي أنّهُ كان وما زال شخصيّة رائدة بالفطرة، فلَقد كانوا رفاقه يلجأون إليه عند أوّل مشكلة يواجهونها فيُخرجهم منها كما تسل الشعرة من العجين.
وفي أحد الأيام تعرض أحد رفاقه للحرمان من المادة الدراسية التي يدرسها عند سيد قطب بسبب ظروفه، ومن المعلوم في الإطار الأكاديمي أن كثرة الغياب عن المحاضرة ستحرمك من امتحان المادة، فاقترح والدي على رفيقه فكرة بسيطة مفادها زيارة الدكتور في شقّته والتحدث معه بشأن المشكلة، وكانت تلك الفترة آخر فترة تدريس لسيد قطب في المملكة العربية السعودية، وحين ذهبا إليه استضافهما بكل سرور، ثم استفسر عن حاجتهما.
فارتجل والدي قائلاً: "كان بودّي إخبارك أنّي على معرفةٍ شخصيّة برجلٍ يملك مكتبة ضخمة بها من الكتب ما يرضيك يا دكتور، ونحن على أتم الاستعداد لخدمتك إن احتجت أيّ كتاب قبل ذهابك عنّا، ولكن قبل ذلك سأطلب منك طلبًا بسيطًا، نحن على مشارف الامتحانات ونستسمحك أن ترفع علامة الحرمان عن هذا الطالب، ولن ننسى وقفتك معنا.
الجدير بالذكر أنّ الدكتور سرعان ما وافق على إزالة علامة الحرمان وأعجب كثيرًا بأسلوب والدي الذي عرف من أين تؤكل الكتف، لأنّهُ في حضرةِ مَن هو أعلى منه علمًا في تلك اللحظة الزمنيّة، حيث إنّه دخل عليه من مبدأ تبادل المنفعة.
المغزى من هذا الموقف أنّ العارِفَ حين يكون في مَلْعبِ غيره إمّا أن يلعب لُعبته، أو يتنحّى عنه. والمَلْعبُ -هُنـا- إنما هوَ الساحةُ الشخصيّة.
إذا نظرتَ نظرة عَمِيمة إلى الحيـاة فستدرك أنَّ ثمّة ملعبًا لكلِ إنسان يتضمّن بعض القدرات والمزايـا. فمِن الذكاءِ أن تعترِف أن هناك مَنْ هوَ أذكى منك في مجالٍ مُحَدَّد حين تكون في ملعبه [أيْ: ساحته الشخصيّة] وهذا بالطبع لا يلغي حقيقة كونك ذكيًا في مجـالٍ آخر.
وعلى هذا المنوال، الإنسانُ بطبعِه ميّـالٌ للنظر إلى ملعب غيره، وتبخيس قيمة ملعبه، فليتَهُ يُدرك تمام الإدراك أنّ الله وَهَبه ومَـنَّ عليه بقدراتٍ عالية للغاية، لو عرف مواطنها وآمـنَ بها لفجَّر الدُنيـا إبداعًا. لكن مِن الواضح أن معظم الناس يربكهم أن يروا أنفسهم عباقرة رغم تعطّشهم إلى العبقريَّة، فيـَا للمفارقة.
"شعرتُ بمدى عبثيّة حياتي أمام نجاحاتهم، كم بدوتُ عديم النفع."
هل تراودك مثل هذه العبارات في قرارةِ نفسك عندما ترى شخصًا ناجحًا في أحد المجالات؟
لا يوجد إنسان فاشل جَزْمًا، يوجد إنسان لم يحاول مُجدّدًا. بالمقابل، لا يوجد إنسان ناجح على الدوام، يوجد إنسان لم يكلّ من المحاولات. مِن غير المعقول أن نقول عن إنسانٍ ما: "هذا إنسانٌ ناجح" بل الأحرى أن نقول: "هذا إنسانٌ ناجح في هذا المجال" فالأمرُ يقتضي التحديد؛ لأنّنا لو قلنا إنّهُ إنسانٌ ناجح وحسب، فكأنّنا بهذا القول نجزم جزمًا قاطعًا بأنّهُ ناجحٌ في كل شيء، وفي كل مكان وزمان، بالتالي كأنّنا نبرهن على كماليّتِه، وهذا غير معقول.
لا يوجد إنسان كامِل، سترى مَنْ يحظى بجمـال الصوت لكنه يفتقر القدرة على الإلقاء والخطابة، أو مَنْ يحظى بمهارة التعبير وسُيولة القلم لكنه يفتقر إلى مهارة الربط والتحليل المنطقي، أو مَنْ يحظى بجسدٍ مَمْشوق لكنه يفتقر التصرّف بما يليق به. فإذا رأيتَ عند أحدٍ موهبة فذّة قد تنفع الناس، فلتعترِف بمزاياه ولتكرِمه بالتعزيز والمدائـح حتى لو كانت تربطكما مشكلة شخصيّة؛ فأنتَ بتصرُّفٍ كهذا تُعلِي من شأنـك في المقامِ الأول؛ لأنّك احترمتَ غيرك واحترام الغير نابع مِن احترام النفس. وتنصف موهبته التي ستخدم الجميع -بما فيهم أنت- في المقام الثاني.
إنّ العقلَ هوَ الركيزةُ السامية التي تُميّز الإنسان عمّا سواه مِن الكوائن. بالعقلِ نستطيع أن نُفكّر ونتكلّم ونُبدِع ونبتكر، بالعقل نستطيع الاقتراب مِن إنسانيّتنا وتشذيبها مِن رواسب الحسد والكراهية والضغينة، وبغيابِه يمكن للإنسان أن يتحوّل إلى إنسانٍ مُتَشيطِن، فلا يكاد يبتعد عن تصرُّفات الشيطان، بطريقتِهِ في التفكير والمعاملة والعمل، وعليه، فإنَّ قمع نوازع الخير، وغَرْس بُذُور الشرور إنما هيَ دَيْدَن المُتشيْطِن.
نستخلص القول بأنَّ إثبات جدارتك لا يتحقّق بالنظر إلى ملعب الغير، إنما بمواظبة النظر إلى ملعبــك. إنَّ اكتشافَ مواطن العبقريّة في الساحةِ الشخصيّة هوَ الامتياز النـادر في نظريّة المَلْعب.
نورا الشمّري.
اللهُم كُن لأهل فلسطين وغزة من شمالها إلى جنوبها واخوتنا في لبنان، عوناً ونصيراً، وبدّل خوفهم أمناً، واحرسهم بعينك التي لا تنام.
اللهم إنا لا نملك إلا الدعاء، فيارب لا ترد لنا دعاء ولا تخيب لنا رجاء وأنت أرحم الراحمين، اللهم يا من لا يهزم جنده ولا يخلف وعده، ولا إله غيره، كُن لهم عونًا و نصيرًا ومعينًا وظهيرًا
اللهم نصرك الذي وعدت