وحتى بعد رفع القضية للحاكم، تظل هذه القضية قضية خاصة بالمتخاصمين فقط، وهما الشيخ محمد بن هادي، وذلك الهولندي، كأي نزاع يقع بين مسلمين في دم أو مال أو عرض، فلا علاقة لطلبة العلم ولا حتى للشيخ ربيع بهذه القضية، ومردها للقاضي وحده، فهو الذي يفصل بينهما، ويعطي كل ذي حق حقه فيها، أما الخطأ العملي فقد اعترف الشيخ به، ولم يصر عليه كما يصر الصعافقة على أخطائهم وضلالاتهم، والعلماء غير معصومين من الخطأ، ولا من الوقوع في الذنوب صغيرها وكبيرها، لكنهم لا يصرون على الكبائر، وقد وقع في القذف بعض الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، كما أن الصحابة كانوا يتقاضون الى رسول الله، وكان صلى الله عليه وسلم يحكم لبعضهم على بعض، وربما طبق الحدود على البعض، ولم يعتبر أحد من الناس هذه الأمور موجبة للطعن، إلا بعض من لا خلاق لهم من الزنادقة الطاعنين في دين الله، وفي الصحابة الكرام، الذين لا غرض لهم إلا التشويه، وإبطال دين الله بإثارة مثل هذه الأمور التي جرت من الصحابة، وهي من عوارض الأهلية، وهاهم الصعافقة يستنون بسنة الزنادقة والمنافقين، ويستعملونها مع العلماء كما يستعملها الزنادقة مع الصحابة، فهل هناك دليل على انحراف الصعافقة أبلغ من هذا الدليل!!
أما الجهة الثانية من الغلو، فهو الغلو في هؤلاء المتكلم فيهم، والتعامل معهم كأنهم أقوام قد جاوزوا القنطرة، وأن أعراضهم ارتفعت عن اجتهادات العلماء فلم تعد تقبل اجتهادا من عالم سواء أخطأ أو أصاب، وأن ظلمهم بالاجتهاد بجرح مبهم أو مفسر أو تحذير منهم، يعد جرما عظيما يستوجب الطعن في الجارح واسقاطه وتسليط السفهاء عليه، وإلحاق كل من يثني عليه به!!
بل تعدى الكلام فيهم، زلات العلماء التي تغتفر في جانب حسناتهم، وفاق ما كان يجري بين العلماء والأئمة من كلام بعضهم في بعض؛ حتى صار قضية منهجية خطيرة، تستوجب التفريق بين المسلمين، والموالاة والمعادة عليها، فإما أن تكون مع محمد بن هادي وإما أن تكون مع الحق!!
ولا شك أن هذا أمر في غاية البطلان، وتاريخ الإسلام كله شاهد على هذا، فكلام العلماء بعضهم في بعض لا يكاد يحصر، ومنه ما هو بلا أدلة مطلقا، وبلا تفسير مقبول، بل هو من عوارض الأهلية، ونوازع النفس البشرية، ومع هذا لم يقل أحد أن مثل هذا الكلام في الأئمة والعلماء -فضلا عن أغمار أغرار كهؤلاء الصعافقة- يوجب الطعن في المتكلم واستباحة عرضه!!
فالعجب من الاستهانة بهذا الخطأ، وعدم التركيز عليه، والتركيز على الأدلة والاشتغال بها، مع أن الاشتغال بها على هذا النحو ليس من منهج الجرح والتعديل، وإن كان في ذكرها تبعا فوائد، إلا أن الخلل في الاقتصار عليها، والعدول عن منهج الجرح والتعديل، في مناظرة إمام الجرح والتعديل، والذي في كلامه هو ما يؤكد هذا ويبينه، كما في كتاب اللباب من مجموع نصائح وتوجيهات الشيخ ربيع للشباب حيث قال السائل: هل صحيح أننا لانقبل الجرح لأحد حتى نرى الجرح ونقع عليه؟ فأجاب الشيخ ربيع حفظه الله بقوله: هذا منهج أبي الحسن الباطل، لأنه يريد أن يسقط أحكام العلماء وفتاواهم ونقدهم لأهل الباطل بهذه السفسطة، وبهذا المنهج الشيوعي، هذا المنهج مشتق من الشيوعية لأن الشيوعي لايؤمن إلا بما يراه أو يسمعه؛ ومذهب السمنية الذين قد يكابرون في المحسوسات، فهذا كلام باطل.
والله عز وجل يقول: "يأيها الذين ءامنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا". فإذا كان المخبر فاسقا لانرد كلامه بل نتبين قد يكون حقا، فإن كان عدلا ثقة حافظا متقنا، فيجب قبول خبره حتى لو تحدث عن الله ورسوله فضلا عن الناس، لأن الله ما حذرنا إلا من قبول أخبار الفساق، لأنه يؤدي إلى الباطل والإضرار بالناس، " أن تصيبوا قوما بجهلة فتصحبوا على مافعلتم ندمين".
فلا تتهم الناس بجهالة تتثبت، التثبت ألا تقبل الخبر وتسلم به وتصدقه إذا جاء عن طريق الفساق حتى تتبين، فإذا جاء عن طريق الثقات الضابطين فالأصل وجوب قبوله، كماهو مفهوم الأية وكما هو عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل السلف الصالح من الصحابة واهل الحديث والفقه. اهـ
فكأننا أصبحنا في شك من أصالة هذا المنهج، وهو منهج الجرح والتعديل، وكونه من العلوم والفنون المستفادة والمستمدة من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وعمل السلف الصالح رضوان الله عليهم، والباقية ببقائهما إن شاء الله تعالى.
نسأل الله أن يبصرنا بالحق، ويعيننا على التصديق به، والعمل بمقتضاه، فإن هذا من أعظم موارد الفتن، التي حكم الله بامتحان الخلق بها، كما قال تعالى: {ﺍﻟﻢ ﺃَﺣَﺴِﺐَ ﺍﻟﻨَّﺎﺱُ ﺃَﻥ ﻳُﺘْﺮَﻛُﻮﺍ ﺃَﻥ ﻳَﻘُﻮﻟُﻮﺍ ﺁﻣَﻨَّﺎ ﻭَﻫُﻢْ ﻟَﺎ ﻳُﻔْﺘَﻨُﻮﻥَ ﻭَﻟَﻘَﺪْ ﻓَﺘَﻨَّﺎ ﺍﻟَّﺬِﻳﻦَ ﻣِﻦ ﻗَﺒْﻠِﻬِﻢْ ﻓَﻠَﻴَﻌْﻠَﻤَﻦَّ ﺍﻟﻠَّﻪُ ﺍﻟَّﺬِﻳﻦَ ﺻَﺪَﻗُﻮﺍ ﻭَﻟَﻴَﻌْﻠَﻤَﻦَّ ﺍﻟْﻜَﺎﺫِﺑِﻴﻦَ } .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على عبده ورسوله محمد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه أجمعين.