كان راتب العلماء 150 كيلو ذهب سنوياً من الدولة العباسية، لهذا كان الأب يحلم أن يصبح ابنه عالماً وليس مثل اليوم يحلم الأب أن يصبح ابنه لاعب كرة قدم و مغني .
-
إنَّ من أزهى صفحات التاريخ الإنساني ما خطَّه العصر العباسي من تكريمٍ للعلم والعلماء، عصرٌ ارتقى فيه الفكر إلى أعلى مراتب التقدير، حين كان راتب العالِم لا يقل عن مئة وخمسين كيلو من الذهب سنويًا، وذاك ما جعل الآباء يحلمون آنذاك أن يروا أبناءهم في مصاف العلماء، لا في ميادين اللهو واللعب، كما هو الحال اليوم.
لقد كان العلماء نجوم المجتمع العباسي، الصفوة التي تسطع في سماء الحضارة، لا المغنيين أو الرياضيين، كما أصبحنا نرى في المجتمعات الحديثة. ولم يكن هذا التقدير اعتباطيًا؛ فقد استمد العباسيون قيمتهم من جوهر الدين الذي رفع من شأن العلم، واعتبر العلماء عقل الأمة وروحها. هم الذين كانوا يصوغون أدوات القوة والتفوق، ويجعلون من الدولة العباسية قبلة الأنظار، الأرض المنيرة وسط ظلام الأمم.
لكن تحقيق حلم الأب في أن يغدو ابنه عالِمًا لم يكن أمرًا هيّنًا، فقد كانت رحلة العلم شاقة وطويلة. يبدأ الابن بالارتحال بين المدن العباسية، يتنقل بين مكتباتها التي أسّسها الخلفاء بعناية، ثم يتوجه إلى بغداد، قلب الحضارة العباسية ومركز النهضة الفكرية، حيث بيت الحكمة، الصرح الذي جمع علوم العالم. ولكي يُعدّ عالِمًا بحق، كان عليه أن يتقن علومًا شتى؛ من الطب إلى الرياضيات، ومن الفلك إلى الأحياء، بل وحتى الجغرافيا والتاريخ. كان التخصص المزدوج أو المتعدد شرطًا أساسيًا للقبول في مصاف العلماء.
ولم يكن العلم مجرد شهادة تُمنح بلا جهد، بل كان للعالِم أن يثبت كفاءته أمام لجان مختصة. ففي عهد الخليفة جعفر المقتدر، قصد بغداد تسعة آلاف طبيب من أنحاء الدولة لتقديم امتحانات شهادة مزاولة الطب. إنها صورة تُجسّد دقة النظام العلمي في ذلك العصر.
وقد تجلّت عظمة العباسيين في اهتمامهم ليس فقط بتكريم العلماء، بل بمراجعة إنتاجهم الفكري. فالكتب التي يؤلفها العلماء كانت تُقيَّم بدقة، ويُمنح صاحبها وزن ما خطَّته يداه ذهبًا يُضاف إلى راتبه السنوي. وإمعانًا في نشر المعرفة، تكفّلت الدولة بنسخ الكتب وتوزيعها في أرجاء الإمبراطورية، وفق معايير دقيقة للقياس، كالدانق والرطل والأوقية.
والمدهش أن هذا النظام العلمي الراقي لم يتأثر حتى بضعف بعض الخلفاء. فقد ظل العلم أولوية الدولة العباسية، مما حفظ للعلماء مكانتهم وحصانتهم طوال قرون. لهذا، لا غرو أن يُطلق على العصر العباسي العصر الذهبي، إذ بقيت شعلة الفكر مضيئة رغم تعاقب الزمن.
المصادر:
1) *معجم الأدباء* - ياقوت الحموي
2) *المقدمة* - ابن خلدون
3) *النهضة العلمية في الحضارات العربية القديمة وأثرها في تطور العلم* - أحمد محمد عبد الرؤوف المنيفي
4) المؤرخ تامر الزغاري
-
إنَّ من أزهى صفحات التاريخ الإنساني ما خطَّه العصر العباسي من تكريمٍ للعلم والعلماء، عصرٌ ارتقى فيه الفكر إلى أعلى مراتب التقدير، حين كان راتب العالِم لا يقل عن مئة وخمسين كيلو من الذهب سنويًا، وذاك ما جعل الآباء يحلمون آنذاك أن يروا أبناءهم في مصاف العلماء، لا في ميادين اللهو واللعب، كما هو الحال اليوم.
لقد كان العلماء نجوم المجتمع العباسي، الصفوة التي تسطع في سماء الحضارة، لا المغنيين أو الرياضيين، كما أصبحنا نرى في المجتمعات الحديثة. ولم يكن هذا التقدير اعتباطيًا؛ فقد استمد العباسيون قيمتهم من جوهر الدين الذي رفع من شأن العلم، واعتبر العلماء عقل الأمة وروحها. هم الذين كانوا يصوغون أدوات القوة والتفوق، ويجعلون من الدولة العباسية قبلة الأنظار، الأرض المنيرة وسط ظلام الأمم.
لكن تحقيق حلم الأب في أن يغدو ابنه عالِمًا لم يكن أمرًا هيّنًا، فقد كانت رحلة العلم شاقة وطويلة. يبدأ الابن بالارتحال بين المدن العباسية، يتنقل بين مكتباتها التي أسّسها الخلفاء بعناية، ثم يتوجه إلى بغداد، قلب الحضارة العباسية ومركز النهضة الفكرية، حيث بيت الحكمة، الصرح الذي جمع علوم العالم. ولكي يُعدّ عالِمًا بحق، كان عليه أن يتقن علومًا شتى؛ من الطب إلى الرياضيات، ومن الفلك إلى الأحياء، بل وحتى الجغرافيا والتاريخ. كان التخصص المزدوج أو المتعدد شرطًا أساسيًا للقبول في مصاف العلماء.
ولم يكن العلم مجرد شهادة تُمنح بلا جهد، بل كان للعالِم أن يثبت كفاءته أمام لجان مختصة. ففي عهد الخليفة جعفر المقتدر، قصد بغداد تسعة آلاف طبيب من أنحاء الدولة لتقديم امتحانات شهادة مزاولة الطب. إنها صورة تُجسّد دقة النظام العلمي في ذلك العصر.
وقد تجلّت عظمة العباسيين في اهتمامهم ليس فقط بتكريم العلماء، بل بمراجعة إنتاجهم الفكري. فالكتب التي يؤلفها العلماء كانت تُقيَّم بدقة، ويُمنح صاحبها وزن ما خطَّته يداه ذهبًا يُضاف إلى راتبه السنوي. وإمعانًا في نشر المعرفة، تكفّلت الدولة بنسخ الكتب وتوزيعها في أرجاء الإمبراطورية، وفق معايير دقيقة للقياس، كالدانق والرطل والأوقية.
والمدهش أن هذا النظام العلمي الراقي لم يتأثر حتى بضعف بعض الخلفاء. فقد ظل العلم أولوية الدولة العباسية، مما حفظ للعلماء مكانتهم وحصانتهم طوال قرون. لهذا، لا غرو أن يُطلق على العصر العباسي العصر الذهبي، إذ بقيت شعلة الفكر مضيئة رغم تعاقب الزمن.
المصادر:
1) *معجم الأدباء* - ياقوت الحموي
2) *المقدمة* - ابن خلدون
3) *النهضة العلمية في الحضارات العربية القديمة وأثرها في تطور العلم* - أحمد محمد عبد الرؤوف المنيفي
4) المؤرخ تامر الزغاري